دروس في تفسير سورة البقرة: الدرس الثامن (30-38) الجزء 2

? ثم يقول تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾.

كان هذا الاختبار للملائكة ولآدم عليهم السلام حتى يُعلّمهم ويُعَلّمَ كُلّ من يقرأ القرآن دروساً وعظات عظيمة جليلة. وبعده أمر الله تعالى الملائكة أن تسجد لآدم عليه السلام على وجه التكريم والتحيّة، وكذلك على وجه الاعتذار له عما قالته في حقه ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ فقال: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَفَسَجَدُوا﴾ الفاء في قوله: ﴿فَسَجَدُوا﴾ للإفادة بسرعة استجابتهم لأمر ربهم، وعدم تأخُّرِهم أو تلكّؤهم، فهم الطائعين الذين ﴿لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ..

وفي هذا السجود أيضاً بيان لفضل آدم عليه السلام وذرّيته، ولم يكن سجود عبادة على الأكيد، فإن سجود العبادة لغير لله مُحَرَّمٌ، وقد مَقَتَ الله تعالى من يسجد لغيره على سبيل العبادة؛ فقال تعالى على لسان هدهد سليمان عن ملكة سبأ: ﴿وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25)﴾، قال الشوكاني رحمه الله : “وَهَذَا السُّجُودُ هُوَ سُجُودُ تَحِيَّةٍ وَتَكْرِيمٍ لَا سُجُودُ عِبَادَةٍ، وَلِلهِ أَنْ يُكْرِمَ مَنْ يَشَاءُ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ كَيْفَ يَشَاءُ بِمَا يَشَاءُ…”([1]).

وكذلك كان سجودهم طاعةً وامتثالاً لأمر ربهم، فلم ترد كلمة السجود في القرآن الكريم إلا لله تعالى سوى آيات سجود الملائكة لآدم عليه السلم، وآية سجود أخوة يوسف له، قال القاسمي رحمه الله: “أما السجود فشريعةٌ من الشرائع يتبع الأمر، فلو أَمَرَنا سبحانه أن نسجدَ لأحد من خلقه لسجدنا طاعةً واتباعاً لأمره، فسجود الملائكة لآدم عبادة للهِ وطاعة وقُربَةٍ يَتَقَرَّبُون بها إليه، وهو لآدم تشريف وتعظيم وتكريم، وسجود أخوة يوسف له تحيّة وسلام”([2]).

وقال القرطبي ما معناه: “إن أكثر العلماء على أن السجود للمخلوق من باب التكريم والتقدير كانَ مُباحاً من زمن آدم حتى حُرّم زمن محمد ﷺ، وهذا ما يُفسّر سجود أولاد يعقوب ليوسف عليهما السلام”([3]). وقال البغوي في تفسيره: “ولم يكن فيه وضع الوجه على الأرض، إنما كان الانحناء، فلما جاء الإسلام أبطل ذلك بالسلام”.

كما أن الرسول ﷺ رَفَضَ وبشدّة أن يسجد له أحد، ففي حديث قيس بن سعد قال:  أتيت الحيرة فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم، فقلتُ: رسول الله أحق أن يُسجَد له، قال: فأتيت النبي ﷺ فقلتُ: إني أتيت الحيرة فرأيتهم يسجدون لمرزبانٍ لهم؛ فأنت يا رسول الله أحق أن نَسجُدُ لك، قال: (أرأيت لو مَرَرتَ بقبري؛ أكنتَ تسجدُ له؟) قال: قلتُ: لا، قال: (فلا تفعلوا لو كنت آمراً أحداً أن يسجدَ لأحدٍ لأمرتُ النساء أن يسجدن لأزواجهن لما جعل الله لهم عليهن من الحق)([4])، ولما قدم معاذ بن جبل رضي الله عنه  من الشام سجد للنبي ﷺ ، قال: (ما هذا يا معاذ؟) قال: أتيت الشام فوافقتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم، فوددتُ في نفسي أن نفعل ذلك بك، فقال: رسول الله ﷺ: (فلا تفعلوا…)([5])، وفي قصّة الجمل الذي خَرَّ ساجداً أمام رسول الله ﷺ يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: ” فلما نَظَرَ الجمل إلى رسول الله ﷺ أقبل نحوه حتى خَرَّ ساجداً بين يديه، فأخذ رسول الله ﷺ بناصيته أذل ما كانت قَطّ حتى أدخله في العمل، فقال له أصحابه: يا رسول الله هذا بهيمة لا يعقل، يسجد لك، ونحن نعقل فنحن أحق أن نسجد لك، قال: (لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر…)([6]).

قلتُ (إبراهيم): بل إنه ﷺ نهى أن ينحني للمخلوق حتى ولو على سبيل الاحترام، ففي حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رجل يا رسول الله، الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له؟ قال: (لا) . قال أفيلتزمه ويقبله؟ قال: (لا) . قال أفيأخذ بيده ويصافحه؟ قال: (نعم)([7])، فكيف بالسجود؟!

نعود إلى القصة، حيث أطاعوا الأمر كُلّهم، ففي سورة ص: ﴿فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ﴾، لكنّ “إبليس” ﴿أَبَى وَاسْتَكْبَرَ﴾ أي رفض امتثال أمر ربه مع الإصرار والتحدّي، على سبيل الاستكبار والتعالي، ﴿وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ فاستحق أن يكون من المطرودين من رحمة الله تعالى، وهذه اللعنة أو الطرد من الرحمة ما تزال تُلاحقه إلى يوم القيامة؛ فيندم في كُلّ حين يُذكر فيه الله([8])، ويبكي في كل وقت يُرفع فيه الأذان، ويتحسّر كمداً وغيظاً كلما رأى مُسلماً يسجد لربّه، ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ قال: (إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد؛ اعتزل الشيطان يبكي يقول: يا ويله) وفي رواية: (يقول: يا ويلي أمِرَ ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأُمِرتُ بالسجود فأبيتُ فَلِيَ النار)([9]).

سؤال: هل إبليس من الملائكة؟

الإجابة: إبليس من الجن وليس من الملائكة، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ﴾  الآية، وقال تعالى:  ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وقال ﷺفيما رواه مسلم:  (خُلِقَت الملائكة من نور، وَخُلِقَ إبليس من مارجٍ من نار، وَخُلِقَ آدم مما وُصِفَ لكم)، وقال الحسن البصري: ( ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط وإنه لأصل الجن، كما أن آدم عليه السلام أصل البشر )  رواه ابن جرير بإسناد صحيح عنه([10]).

قال الشيخ صالح المغماسي([11]): ذهب فريق من أهل العلم إلى أن إبليس هو من الملائكة , وهذا قول مرجوح، و الراجح: أن إبليس من الجن لأربعة أمور أو أربعة أدلة:

الدليل الأول: أن الله عز و جل وصف الملائكة كما في سورة التحريم: ﴿لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ و إبليس هذا عصى الله عز و جل و لم يأتمر بأمره.

الدليل الثاني: أن الله جل وعلا أخبر أنه خلق آدم عليه السلام من طين وإبليس اعترفَ بنفسه قال:﴿أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ والملائكة -كما هو معلوم- خلقت من نور كما في رواية مسلم: (خلِقَت الملائكة من نور، وَخُلِقَ إبليس من نار السموم، وَخُلِقَ آدم عليه السلام مما قد وُصِفَ لكم) فدل ذلك أنه من الجن .

الدليل الثالث: جاء مصرحاً به في سورة الكهف في قوله تعالى : ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ الآية  .

الدليل الرابع: أن الله عز و جل لم يجعل للملائكة ذرية, والملائكة أيضاً ليس فيهم ذكور ولا إناث بخلاف إبليس عليه لعنة الله فهو من الجن, والجن منهم ذكور و إناث، فله ذرية و يتناسلون كما هو معلوم والدليل قول الله تعالى في سورة الكهف : ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً اهـ .

ملاحظة: أضاف الألوسي في تفسيره أمراً آخر؛ هو احتمال أن يكون أمر السجود يشمل الجن مع الملائكة، ولم يذكرهم، فقد ثبت في القرآن أن الجنّ خُلقوا قبل آدم وذلك في قوله تعالى: ﴿وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27)﴾(سورة الحِجر)، أو أنه أمرٌ خاصّ بإبليس، فيكون قد أمر الملائكة وأمر إبليس؛ ودليله قوله تعالى: ﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾ فقد يكون أمرٌ خاص به.

… إذاً، سَجَدَ الملائكة كُلّهم أجمعون، أما إبليس فأبى واستكبر وتَرَفَّع عن الحق زعماً منه أنه خير من آدم أصلاً أزكى منه جوهراً، فقال: ﴿قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76)﴾(سورة ص).. ولأنه تكبّر على أوامر الله استحق أن يكون من المطرودين، فقال تعالى: ﴿قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78)﴾.

بعد ذلك خلق الله لآدمَ زوجه، فقد رُويَ عن ابن عباس و ابن مسعود وعن ناس من الصحابة أنهم قالوا: أُخرج إبليس من الجنة، وأُسكن آدم الجنة، فكان يمشي فيها وحشى؛ ليس له فيها زوج يسكن إليها، فنام نومةً فاستيقظ وعند رأسه امرأة قاعدة، خلقها الله من ضلعه. فسألها: من أنتِ؟ قالت: امرأة. قال: وَلِمَ خُلِقْتِ؟ قالت: لِتَسْكُنَ إليَّ، فقالت له الملائكة -ينظرون ما بَلَغَ من علمه-: ما اسمها يا آدم؟ قال: حواء، قالوا: ولم كانت حواء؟ قال: لأنها خُلِقَت من شيء حي([12]).

وفي الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعاً: (استوصوا بالنساء خيراً، فان المرأة خُلِقَت من ضلعٍ، وإن أعوج شئ في الضلع أعلاه، فإن ذَهَبْتَ تُقِيمه كَسَرتَه، وإن تَرَكْتَهُ لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيراً)([13]).

ملاحظة: عن علي رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال في بول الرضيع: (ينضح بول الغلام ويغسل بول الجارية)، قال أبو اليمان المصري سألت الشافعي عن حديث النبي ﷺ: (يُرَشّ من بول الغلام ويغسل من بول الجارية) والماءان جميعاً واحد، فقال: “لأن بول الغلام من الماء والطين، وبول الجارية من اللحم والدم” ثم قال لي: فهمتَ؟ قلتُ: لا، قال: إن الله تعالى لما خلق آدم خُلِقَت حواء من ضلعه القصير، فصار بول الغلام من الماء والطين، وصار بول الجارية من اللحم والدم، قال ثم قال لي: فهمتَ؟ قلتُ: نعم، قال لي: نفعك الله به([14]).

? ثم يقول تعالى لآدم: ﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا﴾ فأسكنهما الجنة يعيشان فيها حياة هانئة رغيدة، لا جوع ولا عطش ولا تعب، فيأكلا مما بدا لهما من ثمارها وطعامها، وحذّرهما منالأكل من شجرة بعينها اختبارا وامتحاناً لهم، أو لحكمة أُخرى لا نعلمها، فقال:﴿وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ ولا تسأل ما هي هذه الشجرة، لأن الله لم يذكرها، ولو كان في علمها خير لبينه ربنا تبارك وتعالى، وكما قال أحدهم وقد سُئِلَ عن ذلك: “علم لا ينفع وجهل لا يضُرّ”.

﴿فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾  أي الظالمين لأنفسهم بعصيان أوامر الله، وإطاعة إبليس؛ العدو الذي حذّرهم منه ومن وكيده ووسوسته ألا يُغويهم، ففي سورة طه: ﴿فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)﴾.

قال تعالى: ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ﴾.

لكن إبليس -عليه اللعنة- الذي قرر أن يُلاحق آدم وذُرّيته ليبعدهم عن الحق، ويدفعهم إلى المعصية دفعاً، ويَؤزّهم أزاً، بدأ يوسوس لآدم ويُزَيّن له الأكل من الشجرة، ويحلف لهم الأيمان أنها شجرة من يأكل منها يخلد ولا يموت، فأكل آدم منها، وعصى ربّه، وأكلت زوجته، كذلك، قال تعالى في سورة طه: ﴿فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120)فعاقبهما ربهما بأن بدت لهما عوراتهما،﴿فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾.

ثم أخرجهما من الجنة إلى الأرض، يعني أخرجهما مما كانا فيه من النعيم والرغد، وأُهبطوا إلى دار التعب والنصب والمجاهدة، فقال تعالى: ﴿وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾.

وبدأت العداوة بين آدم وإبليس، أي بين الخير والشرّ، فإبليس يسعى بكل ما أوتي من قوة ومن علم ومن حيلة أن يوقع بآدم وبذرّيته، وأتباع إبليس من شياطين الجن والإنس يسعون لإبعاد المسلمين عن دينهم وأخلاقهم، ويمنعون غير المسلمين من الدخول في هذا الدين الحق، ويتخذون لذلك كل الوسائل والحيل، كالإعلام والأقلام والأفلام والإغراء بالمال والنساء، والتهديد والوعيد، والقتل والتشريد، وغيرها من الفتن.

﴿وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ﴾ أي قد يُفتن الإنسان بما في الأرض من حياة، وقد تَغُرّهُ خمسين أو ستين سنة يعيشها ، يسكن فيها ويستوطن جبالها وسهولها، ويتمتع بزينتها وزُخرفها، ويتمتع بنعم الله تعالى التي وضعها فيها.

﴿إِلَى حِينٍ﴾ إي هذا الاستقرار وهذا المتاع وهذه الحياة مصيرها إلى الزوال والانتهاء، فإن الله تعالى حدد لها حيناً معلوماً لتنتهي به، فالإنسان يأتي حينه بموته، فبموته تكون قد قامت قيامته([15])، والكون حينه يوم تنفطر  السماء وتشقق بالغمام.. يوم تنتثر الكواكب.. وتمور السماء، وتسير الجبال.. ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ.. فلا ينبغي للمسلم أن تغره الدنيا، ولا زخرفها، ولا زينتها؛ لأنه يعلم علم اليقين أنه سيعود إلى الله في ذلك الحين الذي حدده ربنا تبارك وتعالى.

… إذاً: عصى آدم، لكنه لم يعلم ما ينبغي عليه فعله، وأخذ يستر عورته بأوراق أشجار الجنة، ﴿فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ﴾، عندها ناداهما ربهما كما في سورة الأعراف: ﴿أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)﴾.. ثم بيّنَ لهم الله تعالى ما العمل، ما هو الحل، ماذا عليهم أن يفعلوا، يقول تعالى: ﴿فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ﴾.. تاب عليه بكلمات؟؟!! غفر له بحروف وألفاظ؟؟!!

ما أعظمك يا رب.. ما أكرمك يا رب.. ما أرحمك يا رب.. مجرد كلمات بسيطة.. تغفر بها الذنوب.. وتمحوا بها الخطايا.. وتتجاوز فيها عن الزلات.. ليس ذلك فحسب.. بل هو الذي أعطانا هذه الكلمات.. فلم نجهد أنفسنا بالتفكير في: ماذا نقول؟ إنها العظمة.. إنها الرحمة.. هنيئاُ لك أيها المسلم.. هنيئاً لك أيها المؤمن.. ففي الحديث القدسي (يقول قال الله تعالى: يا ابن آدم؛ إنكَ ما دعوتني ورجوتني -كلمات- غفرتُ لك على ما كان منك ولا أبالي.. يا ابن آدم؛ لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني -كلمات- غفرتُ لك.. يا ابن آدم؛ لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً –كلمة التوحيد- لأتيتك بقرابها مغفرة)([16]). و في الحديث أيضاً: (ما على الأرض أحد يقول لا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله إلا كفرت عنه خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر)([17]) كلمات أيضاً.. لكنها إذا كانت من قلب صادق فإنها ستكون سبباً في مغفرة الذنوب.. إنه الكرم الإلهي..

﴿إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾.. تاب الله على آدم بكلمات علمه إياها.. أشهد أنه (التَّواب) كثير التَّوب.. أشهد أنه (الرحيم) عظيم الرحمة.. الذي سبقت رحمته غضبه.. فهو الذي يقول: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا(64)(سورة النساء).

سؤال: ما هي الكلمات التي عَلَّمَها الله تعالى لآدم؟

الجواب: بين الله تعالى هذه الكلمات في سورة الأعراف، فقال تعالى: ﴿قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)﴾ وورد عن بعض الصحابة والتابعين أنها: (اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الغافرين) أو هي: (اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الراحمين اللهم لا إله إلا أنت سبحانك بحمدك رب إني ظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم)([18]).

لكن أي كلمات فيها من الاستغفار والتوبة والأوبة الصادقة لله، فإنه يقبلها من عبده، ففي الحديث: (إن عبدا أصاب ذنبًا فقال: يا رب إني أذنبتُ ذنباً فاغفره، فقال له ربه: عَلِمَ عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به فغفر له، ثُمَّ مكث ما شاء الله ثم أصاب ذنباً آخر، فقال: يا رب إني أذنبت ذنباً آخر فاغفره لي. قال ربه: عَلِمَ عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به فغفر له…)([19]) إنها كلمات.. أي كلمات، لكن الأصل فيها الصدق والإخلاص، فقد روى الحاكم في مستدركه من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال في تفسير الآية: (قال آدم: يا رب ألم تخلقني بيدك؟ قيل له: بلى. قال: ونفخت فيَّ من روحك؟ قيل له: بلى، قال: وعطستُ فقلتَ يرحمك الله، وَسَبَقَتْ رحمتك غضبك، قيل له: بلى، قال: وكتبتَ عليَّ أن أعمل هذا –أي خطيئته تلك- قيل له بلى. قال أفرأيت إن تُبْتُ هل أنت راجعي إلى الجنة؟.قال: نعم)([20]).

سؤال: هل الجنة التي كان فيها آدم هي الجنة التي سيدخلها الناس يوم القيامة؟

الجواب: لم يثبت في ذلك عن الرسول ﷺ شيئاً، قيل: أنها جنة في السماء خاصة وليس الجنة التي وعد الله المتقين فهبط آدم منها إلى الأرض، وقيل: كانت على الأرض ولم تكن في السماء وقوله (اهبطا) يعني انتقلا من مكان خصب إلى آخر مجدب، أو من مكان مرتفع إلى منخفض؛ مثل قوله تعالى: ﴿اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ، وقيل: هي ليست جنة الميعاد لسببين، أن هذا الجنة لا يدخلها إبليس، وجنة آدم قد دخلها، وتلك الجنة لا يُعصى الله فيها، وجنة آدم عُصي فيها. والأفضل أن لا نبحث عن شيء أخفاه الله عنا، ولو علم الله أن في علمه خيراً أو نفعاً لأخبرنا به. والله أعلم.

? قوله تعالى: ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا﴾ جميعاً: يعني آدم وذرّيته، وإبليس وذرّيته.

قوله: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ هذا الغاية من إنزالهم إلى الأرض، فالآية تقول: إني سوف أرسل إليكم (هُدًى) يعني سأرسم لكم طريق الهداية والصلاح، وطريق الخير  التي تنالون بها رضواني، فمن سار  على هذا النهج وعلى هذا السبيل ﴿فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ من فتن الدنيا فإنهم سينجون -بإذن الله- منها، وسَيُثَبّتهم الله فإنه هو القائل: ﴿يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ،  ﴿وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ في الآخرة عندما يجزيهم الله أحسن ما عملوا.

كذلك ﴿فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ في الآخرة من فتن يوم القيامة، من حر يوم الحشر، ومن العرق الذي يُغرق الناس، ومن حرّ النار، وظلمة المرور على الصراط.. وغيرها من الفتن.. ﴿وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يوم أن يُدخلهم الله الجنة، وهي دار منزوع منها الهم والحزن والشر والنصب والوصب وكل الشرور والمستقذرات.

أما من لم يَسِر على طريق الحق والسبيل الذي أراده الله؛ فإن الله يقول: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.

﴿وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ الآيات المكتوبة أو الآيات المرئية، يعني القرآن الكريم، والمخلوقات في هذا الكون العظيم.

﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ إذا ماتوا وهم على هذا الكفر؛ فإن النار مصيرهم، وهم فيها خالدون: أي تنتهي حياتهم بالموت، ولا تفنى هذه الحياة أو تنتهي.

%  %  %

([1])فتح القدير ج 1 ص 105.

([2]) تفسير القاسمي ج 1 ص 319.

([3]) تفسير القرطبي 1 ص 268.

([4]) أخرجه أبو داود، وقال الشيخ الألباني : صحيح دون جملة القبر، صحيح سنن أبي داود 2140.

([5]) رواه ابن ماجه وابن حبان في صحيحه، وقال الألباني في صحيح الترغيب 1938: حسن صحيح.

([6]) رواه أحمد والنسائي بإسناد جيد، وصححه الألباني في صحيح الترغيب رقم 1936.

([7])رواه الترمذي، وحسّنه الألباني في السلسلة الصحيحة ج 1 ص 298 ، رقم 160.

([8]) قال رسول الله ﷺ: (إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين، فإذا قُضِىَ النداء أقبل، حتى إذا ثُوِّبَ بالصلاة أدبر، حتى إذا قُضِىَ التثويب أقبل؛ حتى يخطر بين المرء ونفسه يقول: اذكر كذا اذكر كذا لما لم يكن يذكر حتى يظل الرجل لا يدري كم صلى) متفق عليه.

([9])رواه مسلم وابن ماجه، حديث رقم: 727 في صحيح الجامع.

([10])من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإِفتاء، من موقع الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء.

([11]) هو إمام وخطيب مسجد قباء، من محاضرة له بعنوان (وقفات مع سورة ( ص )) .

([12])روي ذلك عن ابن عباس وابن مسعود وعن ناس من الصحابة، كما عند الطبري، وحسّنه سيد بن رجب مُحَقِّق (قصص الأنبياء) لابن كثير، ص 17.

([13])أخرجه البخاري ومسلم، انظر صحيح الترغيب رقم 1927.

([14])رواه ابن ماجة وصححه الألباني، انظر صحيح سنن ابن ماجة 525.

([15])ورد في ذلك حديث مرفوع قال عنه الألباني: (موضوع) في السلسلة الضعيفة رقم 5462 لفظه: (إذا مات أحدكم فقد قامت قيامته فاعبدوا الله كأنكم ترونه واستغفروه كل ساعة)، فلا يُرفع هذا لرسول الله ﷺ.

([16])رواه الترمذي وقال حديث حسن، انظر حديث رقم: 4338 في صحيح الجامع.

([17])أخرجه أحمد والترمذي، انظر حديث رقم: 5636 في صحيح الجامع.

([18])انظر في ذلك كتاب تفسير الطبري وابن كثير وغيرها.

([19])رواه البخاري ومسلم.

([20])قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

أضف تعليق