ضمام والإعلام المضلل

ضمام والإعلام المضللصورة ذات صلة

أسلم ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه بعد حوار طويل مع رسول الله ﷺ، وكعادة كل من يُسلم في ذلك الوقت -وينبغي أن يكون ذلك في كل وقت- ذهب ضمام ليُطبق هذه الدعوة عمليًا مع أهله وقومه، ذهب وهو يحمل شفقةً عليهم، ورحمةً بهم، وحُبًا لدينه ولأهله، فعندما قدم على قومه، واجتمعوا إليه، كان أول ما تكلم به أن قال: “بِئْسَتِ اللاتُ وَالْعُزَّى”! فثارت ثائرة القوم، واشتغلت آلات التخويف الإعلامية التي تُخوّف الشعوب والأفراد من مخاطر واهنة واهية وهمية..

قَالُوا: مَهْ يَا ضِمَامُ، اتَّقِ الْبَرَصَ وَالْجُذَامَ، اتَّقِ الْجُنُونَ..

لكنَّ الإيمان الصادق أصلُه ثابتٌ وفرعُهُ في السماءِ.. ، فقَالَ: وَيْلَكُمْ، إِنَّهُمَا وَاللهِ لَا يَضُرَّانِ وَلا يَنْفَعَانِ، إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ بَعَثَ رَسُولًا، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابًا اسْتَنْقَذَكُمْ بِهِ مِمَّا كُنْتُمْ فِيهِ، وَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، إِنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِهِ بِمَا أَمَرَكُمْ بِهِ، وَنَهَاكُمْ عَنْهُ.

قال الراوي -وهو ابن عباس رضي الله عنهما-: “فَوَاللهِ مَا أَمْسَى مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَفِي حَاضِرِهِ رَجُلٌ وَلا امْرَأَةٌ إِلا مُسْلِمًا”. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: “فَمَا سَمِعْنَا بِوَافِدِ قَوْمٍ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ”[1].

وتظهر خيبة الإعلام المضلل، الحريص على إظهار الحق بصورة قبيحة سيئة، تُنَفّر منه الناس، في قصة الطفيل بن عمرو؛ سيد قبيلة دوس، اسمع إليه وهو يروي لنا قصته فيقول: كنتُ رجلاً شاعراً سيداً في قومي فقدمتُ مكةَ، فمشيت إلى رِجالاتِ قريش فقالوا : “يا طفيل إنك امرؤٌ شاعرٌ سيدٌ مطاعٌ في قومك، وإنَّا قد خشينا أن يلقاك هذا الرجل فيصيبك ببعض حديثه، فإنما حديثه كالسحر، فاحذره أن يُدخل عليكَ وعلى قومك ما أدخل علينا وعلى قومنا، فإنه يفرق بين المرء وابنه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وأبيه” فوالله ما زالوا يحدثونني في شأنه وينهونني أن أسمع منه حتى قلت والله لا أدخل المسجد إلا وأنا ساد أذني.

 قال الطفيل: فعمدت إلى أذني فحشوتهما كرسفاً ثم غدوت إلى المسجد فإذا برسول الله -ﷺ- قائماً في المسجد قال : فقمت منه قريباً وأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله . قال : فقلت في نفسي : والله إن هذا للعجز والله إني امرؤ ثبت ما يخفى علي من الأمور حسنها ولا قبيحها والله لأستمعن منه فإن كان أمره رشداً أخذت منه وإن كان غير ذلك اجتنبته  فقلتُ بالكرسفةِ  فنزعتها من أذني فألقيتها ثم استمعت له فلم أسمع كلاماً قط أحسن من كلام يتكلم به. قال: قلت في نفسي يا سبحان الله ؟ ما سمعت كاليوم لفظاً أحسن منه ولا أجمل . قال : ثم انتظرت رسول الله -ﷺ- حتى انصرف فاتبعته فدخلت معه بيته فقلت له : يا محمد إن قومك جاؤوني فقالوا كذا وكذا فأخبرته بالذي قالوا وقد أبى الله إلا أن أسمعني منك ما تقول وقد وقع في نفسي أنه حق وإني شاعر فاسمع ما أقول. فقال النبي ﷺ: «هات». فأنشدته. فقال رسول الله ﷺ: «وأنا أقول فاسمع». ثم قرأ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} (الإخلاص:1) إلى آخرها، و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} (الفلق:1)  إلى آخرها، و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} (الناس:1)  إلى آخرها، وعرض عليَّ الإسلام، فلا والله ما سمعت قولاً قط أحسن منه ولا أمرا أعدل منه فأسلمت[2].

وبعد إسلامه بلغ ذلك قريشا فهددوه وتوعدوه، فذكَّرهم بأنه سيد دوس وأنهم لو تعرضوا له فلن تتركهم دوس، فهابوه، وقد أنشد رضي الله عنه:

ألا أبلغ لديك بني لؤي *** على الشنآن والعضب المرد

بأن الله رب الناس فرد *** تعالى جده عن كل ند

وأن محمدا عبد رسول *** دليلُ هدى ومُوضحُ كلِّ رشد

رأيت له دلائل أنبأتني *** بأن سبيله يهدي لقصد            

وأن الله جلله بهاء *** وأعلى جده في كل جد

وقالت لي قريش عد عنه *** فإن مقاله كالغر يعدي

فلما أن أملت إليه سمعي *** سمعت مقالة كمشهور شهد

وألهمني هدايا الله عنه *** ومبدل طالعي نحسي بسعدي

ففزت بما حباه الله قلبي *** وفاز محمد بصفاء ودي[3]

وكالعادة، رجع الطفيل إلى أهله وقومه داعيًا لهم إلى دين الله تعالى، لكنهم أبوا أن يُسلموا لله، فرجع إلى رَسُولِ اللهِ ﷺ حزينًا يقول: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ دَوْسًا قَدْ عَصَتْ وَأَبَتْ فَادْعُ اللهَ عَلَيْهَا، فَظَنَّ النَّاسُ أَنَّهُ يَدْعُو عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَأْتِ بِهِمْ»[4].

[1] أخرجه أحمد (2380)، وهو في “السيرة” لابن هشام (ج4 ص219) عن ابن إسحاق، ومن طريقه أخرجه الدارمي (652) ، وابن شبة في “تاريخ المدينة” (ج2 ص521)، وأبو داود (487) ، والبيهقي في “الدلائل” (ج5 ص374)، وقال محقق المُسند: حديث حسن.

[2] أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (2108) بنحوه، وأبي نعيم في دلائل النبوة (186)، وفي معرفة الصحابة (3500)، وسيرة ابن هشام (1 ص382 )، والبداية والنهاية (3 ص123) وسبل الهدى والرشاد (2 ص417).

[3] انظر “الوافي بالوفيات” (ج16 ص264)، والإصابة (ج2 ص67) وسبل الهدى والرشاد (ج2 ص418).

[4] أخرجه البخاري (6397) واللفظ له، وأحمد (7315)، وغيرهم.

أضف تعليق