خطبة: ولا تقربوا الفواحش،
4-10-2019
الحمد لله: ﴿غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ (غافر:3).. وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له: ﴿لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (التغابن: 1).
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، البشير النذير، والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلّم تسليماً.
أما بعد أيها الأحبة في الله، إن موضوع خطبتنا اليوم هو حول قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾..
والفواحش وإن كانت وردت في بعض آيات القرآن بمعنى الزنا ومقدماته، فإنها في الحقيقة أعم وأشمل من ذلك، فهي تشمل كل ما يُزعزع المُجتمع المسلم أخلاقيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا وعلميًا، وعلى كل الأصعدة، لهذا فإن الذي قال: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ﴾ هو الذي قال: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ﴾، وهو الذي سنّ قانونًا يقول: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾..
أيها الأحبة الكرام، لقد حَرَص الإسلام أشد الحرص على مُحَاصَرة الفواحش بكل أنواعها، وبدأت محاربته للفواحش من خلال منْع إشاعتها، وإغلاق كل السُّبُل المؤدِّية إليها، فقد قَدَّم تحريم النظر على تحريم الزنا؛ فقال: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾ (النور: 30)، وتَوَعَّد مَن يُطْلق العنان للسانه في أعراض الناس، وإثارة الشبهات، فأوجب له العذاب الأليم، وأسقط اعتباره عندما أسقط شهادته نهائيًّا، فلا يجوز له أن يشهد على زواج أو طلاق أو عقد بيع أو غيره، على ظاهر الآية، إلا إذا تاب توبة نصوحًا صادقة.
ليس ذلك فحسب، اسمعوا إلى قول ربنا تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ لم تعبر الآية بفعل: يتمنون أو يأتون الفاحشة أو يشيعونها وإنما مجرد الحب القلبي. فإذا كان العذاب لمجرد الحب القلب لإشاعة الفاحشة، فما بال من يشيعها؟! أو من يفعلها؟! وحتى وإن كانوا مخفيين عن أعيُن الناس فإن ختام الآية: ﴿وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)﴾ (النور).. فإنهم لا يخفون على الله..
أيها المسلمون عباد الله.. أخرج ابن ماجه عَن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ الله: مَتَى نَتْرُكُ الأَمْرَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَن المُنْكَرِ؟ قَالَ: (إِذَا ظَهَرَ فِيكُمْ مَا ظَهَرَ فِي الأُمَمِ قَبْلَكُمْ)، قُلْنَا يَا رَسُولَ الله: وَمَا ظَهَرَ فِي الأُمَمِ قَبْلَنَا؟ قَالَ: (المُلْكُ فِي صِغَارِكُمْ، وَالفَاحِشَةُ فِي كِبَارِكُمْ، وَالعِلْمُ فِي رُذَالَتِكُمْ)[1].
وانظروا هل ترونَ في المجتمع ما حدَّثَ به النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أم لا؟
أخرج ابن ماجه أن رسول الله ﷺ قال: (يَا مَعْشَرَ المُهَاجِرِينَ! خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِالله أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ: لَمْ تَظْهَر الفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا، إِلا فَشَا فِيهِم الطَّاعُونُ، وَالأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِم الَّذِينَ مَضَوْا. وَلَمْ يَنْقُصُوا المِكْيَالَ وَالمِيزَانَ، إِلا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ، وَشِدَّةِ المَؤُونَةِ، وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ. وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ، إِلا مُنِعُوا القَطْرَ مِن السَّمَاءِ، وَلَوْلا البَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا. وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ الله وَعَهْدَ رَسُولِهِ، إِلا سَلَّطَ الله عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ. وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ الله، وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ الله، إِلا جَعَلَ الله بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ).
يا عباد الله، هل عرفتم سَبَبَ الطاعونِ والأوجاعِ التي لم تكن في السلف، لماذا نزلت بالعباد؟
وهل عَرَفْتُم لماذا أُخِذَ الناسُ بالسنينَ وشدَّةِ المَؤُونة، وغلاء الأسعار؟
وهل عَرَفْتُم لماذا ابتلى الله المسلمين بجورِ السلطانِ؟ وظٌلم الحاكم؟
وهل عَرَفْتُم لماذا مُنِعَ الناسُ القَطْرَ؟ وإذا أُمْطِرُوا فبسببِ البهائم.
وهل عَرَفْتُم لماذا أخذَ عدوُّنا بلادنا وخيراتِنا وأموالَنا؟
وهل عَرَفْتُم لماذا جعلَ اللهُ بأسَ المسلمين بينهم شديداً؟
أقول قولي هذا…
الخطبة الثانية: الحمد لله…
أما بعد، فيا عباد الله، إن لأجهزة الإعلام المسموعةِ والمرئيَّة الدورُ الكبيرُ في انتشار الفاحشة، وهب تُبَثُّ ليلاً ونهاراً بدون حياءٍ، حتى بدأ الأطفال يُنَشَّؤُون على ذلك من خلالِ أجهزةِ الإعلامِ والبرامجِ الخاصَّةِ بهم.
وإنَّ المسؤولين عن الإعلامِ في بلاد المسلمين لا يراقبون الله تعالى في الأمَّة، فكانوا سبباً في انتشار الفاحشة، والمسؤولُ عن المسؤولينَ عطَّلَ الحدودَ، وانقطعت صلةُ الكثيرِ من الناسِ بالله تعالى، حتى عمَّ البلاءُ، ولا حول ولا قوَّة إلا بالله العلي العظيم.
فعلينا أيها الأحبة أن نتحمل مسؤولية أنفسنا وأهلينا، وأن نتقي الله في أنفسنا وفي أهلينا، فحبيبنا ﷺ يقول: (إِنَّ اللهَ سَائِلٌ كُلَّ رَاعٍ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ ، حَفِظَ ذَلِكَ أَمْ ضَيَّعَ ، حَتَّى يَسْأَلَ الرَّجُلَ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ)[2]. وقال: (ما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يحطها بنصحه إلا لم يجد رائحة الجنة)[3].
فعلى كل مسؤول عطَّل حدود الله أن يتَّقي الله، وليعلم أنه يقول: ﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُم (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم (26)﴾ (الغاشية).. وعلى كل مسؤول عن الإعلام بكل وسائله أن يتقي الله ولعلم أنه يقول: ﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُم (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم (26)﴾..
وليعلم كل من اجتهد في محاولاتِه الراميةِ إلى إفساد الأخلاق والقِيَم، عبْرَ كثيرٍ من الوسائل، من صحفٍ ومجلات، وقنواتٍ وإذاعات ومواقعَ، أنهم لا يخفون على الله.. وسيُفشُل مؤامراتهم.. فهو الذي يقول عنهم: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)﴾ (التوبة).. وهو الذي يقول لنا: ﴿فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا﴾.
وليعلم كل المسلمين.. شبابهم وشيابهم.. نساءهم وبناتهم.. أن الله يقول لهم: ﴿وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا﴾ (النساء: 27).
اللهم اغفر ذنوبنا وذنوب المسلمين….
الخطبة الثانية: الحمد لله…
أما بعد، فإن الحل الوحيد لكل ما نعانيه من فتن وفساد هو العودة إلى ديننا عودة صادقة، ولا بد من تقوية صلتهم بالله تعالى، وربطهم بالدين منهجًا وسلوكًا، عودة إلى العمل الصالح وامتثال أوامره والانتهاء عن نواهيه، وتطبيق ذلك في حياتنا اليومية، فالله يقول: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)﴾ (النحل).
هذه الآية التي سمعها رجل اسمه عثمان بن مظعون من رسول الله ﷺ وهو يدعوه إلى الإسلام، فتحرّك الإيمان الكامن في قلبه، ثم أسلم وكان من خير صحابة النبي ﷺ بسبب هذه الآية التي قال عنها الحسن البصري: “لم تترك هذه الآيةُ خيرًا إلا أمَرَت به، ولا شرًّا إلا ونهَت عنه”[4]
الله جل جلاله.. الذي يُثيب على الأعمال الصالحة المضادة للفحشاء في الدنيا بصلاح الأحوال والتمكين، فهو القائل: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾ (النور: 55).
الله الكريم، الذي يُثيب على الأعمال الصالحة المضادة للفحشاء بصلاح وهداة البال والراحة النفسية، ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2)﴾ (محمد).
الله الكريم الذي يُثيب على الأعمال الصالحة المضادة للفحشاء بالأمن والأمان: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ﴾ ليس ذلك فحسب، بل في ختام الآية: ﴿وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ (الأنعام: 82).. يهديهم لكل ما ينفعهم.. يهديهم لكل ما يرفعهم.. يهديهم لكل ما يُنجيهم من الفتن..
الله الكريم الذي يُثيب على الأعمال الصالحة المضادة للفحشاء بالحياة الطيبة: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (النحل: 97).
أما في الآخرة: ﴿إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ (الفرقان:70)، وفي النهاية: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)﴾ (البقرة).
يا أيها الناس فلتنجوا بأنفسكم *** ولا تكونوا كمن ضلت مساعيهِ
عودوا إلى الله ينقذكم برحمته *** من الشقاء الذي بتنا نعانيه
ولتستقوا من كتاب الله منهَجَكُم *** فليس في الأرض منهاج يدانيه
اللهم اغفر ذنوبنا وذنوب المسلمين….
[1] أخرجه ابن ماجة (4015)، وقال محمد فؤاد عبد الباقي: في الزوائد إسناده صحيح. رجاله ثقات، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده قوي.
[2] رواه ابن حبان ، وصححه الألباني في غاية المرام برقم 271
[3] رواه البخاري 6731.
[4] قصة إسلام عثمان أخرجها أحمد في المسند (2919)، وأخرجه البخاري في “الأدب المفرد” (893).