خطبة: ولا تقربوا الفواحش

خطبة: ولا تقربوا الفواحش،

4-10-نتيجة بحث الصور عن ولا تقربوا الفواحش2019

الحمد لله: ﴿غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ (غافر:3).. وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له: ﴿لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (التغابن: 1).

وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، البشير النذير، والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلّم تسليماً.

أما بعد أيها الأحبة في الله، إن موضوع خطبتنا اليوم هو حول قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾..

والفواحش وإن كانت وردت في بعض آيات القرآن بمعنى الزنا ومقدماته، فإنها في الحقيقة أعم وأشمل من ذلك، فهي تشمل كل ما يُزعزع المُجتمع المسلم أخلاقيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا وعلميًا، وعلى كل الأصعدة، لهذا فإن الذي قال: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ﴾ هو الذي قال: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ﴾، وهو الذي سنّ قانونًا يقول: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾..

أيها الأحبة الكرام، لقد حَرَص الإسلام أشد الحرص على مُحَاصَرة الفواحش بكل أنواعها، وبدأت محاربته للفواحش من خلال منْع إشاعتها، وإغلاق كل السُّبُل المؤدِّية إليها، فقد قَدَّم تحريم النظر على تحريم الزنا؛ فقال: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾ (النور: 30)، وتَوَعَّد مَن يُطْلق العنان للسانه في أعراض الناس، وإثارة الشبهات، فأوجب له العذاب الأليم، وأسقط اعتباره عندما أسقط شهادته نهائيًّا، فلا يجوز له أن يشهد على زواج أو طلاق أو عقد بيع أو غيره، على ظاهر الآية، إلا إذا تاب توبة نصوحًا صادقة.

ليس ذلك فحسب، اسمعوا إلى قول ربنا تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ لم تعبر الآية بفعل: يتمنون أو يأتون الفاحشة أو يشيعونها وإنما مجرد الحب القلبي. فإذا كان العذاب لمجرد الحب القلب لإشاعة الفاحشة، فما بال من يشيعها؟! أو من يفعلها؟! وحتى وإن كانوا مخفيين عن أعيُن الناس فإن ختام الآية: ﴿وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)﴾ (النور).. فإنهم لا يخفون على الله..

أيها المسلمون عباد الله.. أخرج ابن ماجه عَن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ الله: مَتَى نَتْرُكُ الأَمْرَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَن المُنْكَرِ؟ قَالَ: (إِذَا ظَهَرَ فِيكُمْ مَا ظَهَرَ فِي الأُمَمِ قَبْلَكُمْ)، قُلْنَا يَا رَسُولَ الله: وَمَا ظَهَرَ فِي الأُمَمِ قَبْلَنَا؟ قَالَ: (المُلْكُ فِي صِغَارِكُمْ، وَالفَاحِشَةُ فِي كِبَارِكُمْ، وَالعِلْمُ فِي رُذَالَتِكُمْ)[1].

وانظروا هل ترونَ في المجتمع ما حدَّثَ به النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أم لا؟

أخرج ابن ماجه أن رسول الله ﷺ قال: (يَا مَعْشَرَ المُهَاجِرِينَ! خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِالله أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ: لَمْ تَظْهَر الفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا، إِلا فَشَا فِيهِم الطَّاعُونُ، وَالأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِم الَّذِينَ مَضَوْا. وَلَمْ يَنْقُصُوا المِكْيَالَ وَالمِيزَانَ، إِلا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ، وَشِدَّةِ المَؤُونَةِ، وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ. وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ، إِلا مُنِعُوا القَطْرَ مِن السَّمَاءِ، وَلَوْلا البَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا. وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ الله وَعَهْدَ رَسُولِهِ، إِلا سَلَّطَ الله عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ. وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ الله، وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ الله، إِلا جَعَلَ الله بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ).

يا عباد الله، هل عرفتم سَبَبَ الطاعونِ والأوجاعِ التي لم تكن في السلف، لماذا نزلت بالعباد؟

وهل عَرَفْتُم لماذا أُخِذَ الناسُ بالسنينَ وشدَّةِ المَؤُونة، وغلاء الأسعار؟

 وهل عَرَفْتُم لماذا ابتلى الله المسلمين بجورِ السلطانِ؟ وظٌلم الحاكم؟

وهل عَرَفْتُم لماذا مُنِعَ الناسُ القَطْرَ؟ وإذا أُمْطِرُوا فبسببِ البهائم.

وهل عَرَفْتُم لماذا أخذَ عدوُّنا بلادنا وخيراتِنا وأموالَنا؟

وهل عَرَفْتُم لماذا جعلَ اللهُ بأسَ المسلمين بينهم شديداً؟

أقول قولي هذا…

الخطبة الثانية: الحمد لله…

أما بعد، فيا عباد الله، إن لأجهزة الإعلام المسموعةِ والمرئيَّة الدورُ الكبيرُ في انتشار الفاحشة، وهب تُبَثُّ ليلاً ونهاراً بدون حياءٍ، حتى بدأ الأطفال يُنَشَّؤُون على ذلك من خلالِ أجهزةِ الإعلامِ والبرامجِ الخاصَّةِ بهم.

وإنَّ المسؤولين عن الإعلامِ في بلاد المسلمين لا يراقبون الله تعالى في الأمَّة، فكانوا سبباً في انتشار الفاحشة، والمسؤولُ عن المسؤولينَ عطَّلَ الحدودَ، وانقطعت صلةُ الكثيرِ من الناسِ بالله تعالى، حتى عمَّ البلاءُ، ولا حول ولا قوَّة إلا بالله العلي العظيم.

فعلينا أيها الأحبة أن نتحمل مسؤولية أنفسنا وأهلينا، وأن نتقي الله في أنفسنا وفي أهلينا، فحبيبنا ﷺ يقول: (إِنَّ اللهَ سَائِلٌ كُلَّ رَاعٍ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ ، حَفِظَ ذَلِكَ أَمْ ضَيَّعَ ، حَتَّى يَسْأَلَ الرَّجُلَ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ)[2]. وقال: (ما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يحطها بنصحه إلا لم يجد رائحة الجنة)[3].

فعلى كل مسؤول عطَّل حدود الله أن يتَّقي الله، وليعلم أنه يقول: ﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُم (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم (26)﴾ (الغاشية).. وعلى كل مسؤول عن الإعلام بكل وسائله أن يتقي الله ولعلم أنه يقول: ﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُم (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم (26)﴾..

وليعلم كل من اجتهد في محاولاتِه الراميةِ إلى إفساد الأخلاق والقِيَم، عبْرَ كثيرٍ من الوسائل، من صحفٍ ومجلات، وقنواتٍ وإذاعات ومواقعَ، أنهم لا يخفون على الله.. وسيُفشُل مؤامراتهم.. فهو الذي يقول عنهم: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)﴾ (التوبة).. وهو الذي يقول لنا: ﴿فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا﴾.

وليعلم كل المسلمين.. شبابهم وشيابهم.. نساءهم وبناتهم.. أن الله يقول لهم: ﴿وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا﴾ (النساء: 27).

اللهم اغفر ذنوبنا وذنوب المسلمين….

الخطبة الثانية: الحمد لله…

أما بعد، فإن الحل الوحيد لكل ما نعانيه من فتن وفساد هو العودة إلى ديننا عودة صادقة، ولا بد من تقوية صلتهم بالله تعالى، وربطهم بالدين منهجًا وسلوكًا، عودة إلى العمل الصالح  وامتثال أوامره والانتهاء عن نواهيه، وتطبيق ذلك في حياتنا اليومية، فالله يقول: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)﴾  (النحل).

هذه الآية التي سمعها رجل اسمه عثمان بن مظعون من رسول الله ﷺ وهو يدعوه إلى الإسلام، فتحرّك الإيمان الكامن في قلبه، ثم أسلم وكان من خير صحابة النبي ﷺ بسبب هذه الآية التي قال عنها الحسن البصري: “لم تترك هذه الآيةُ خيرًا إلا أمَرَت به، ولا شرًّا إلا ونهَت عنه”[4]

الله جل جلاله.. الذي يُثيب على الأعمال الصالحة المضادة للفحشاء في الدنيا بصلاح الأحوال والتمكين، فهو القائل: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾ (النور: 55).

الله الكريم، الذي يُثيب على الأعمال الصالحة المضادة للفحشاء بصلاح وهداة البال والراحة النفسية، ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2)﴾ (محمد).

الله الكريم الذي يُثيب على الأعمال الصالحة المضادة للفحشاء بالأمن والأمان: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ﴾ ليس ذلك فحسب، بل في ختام الآية: ﴿وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ (الأنعام: 82).. يهديهم لكل ما ينفعهم.. يهديهم لكل ما يرفعهم.. يهديهم لكل ما يُنجيهم من الفتن..

الله الكريم الذي يُثيب على الأعمال الصالحة المضادة للفحشاء بالحياة الطيبة: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (النحل: 97).

أما في الآخرة: ﴿إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ (الفرقان:70)، وفي النهاية: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)﴾ (البقرة).

يا أيها الناس فلتنجوا بأنفسكم *** ولا تكونوا كمن ضلت مساعيهِ

عودوا إلى الله ينقذكم برحمته *** من الشقاء الذي بتنا نعانيه

ولتستقوا من كتاب الله منهَجَكُم *** فليس في الأرض منهاج يدانيه

اللهم اغفر ذنوبنا وذنوب المسلمين….

[1] أخرجه ابن ماجة (4015)، وقال محمد فؤاد عبد الباقي: في الزوائد إسناده صحيح. رجاله ثقات، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده قوي.

[2] رواه ابن حبان ، وصححه الألباني في غاية المرام برقم 271

[3] رواه البخاري 6731.

[4] قصة إسلام عثمان أخرجها أحمد في المسند (2919)، وأخرجه البخاري في “الأدب المفرد” (893).

خطبة الهمة العالية

صورة ذات صلةالهمة العالية

الحمد لله عالم السر والنجوى، والمطلع على الضمائر وكل ما يخفى، يعلمن خائنة الأعين وما تخفي الصدور، أحمده سبحانه، وعد المخلصين الدرجات العلى وحذر المشركين به نارًا تلظَّى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أكملُ الخلق توحيدًا وأبرُهم عملاً وأتقاهم لله رب العالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد:

أما بعد: أيها الأحبة في الله، لقد وَثَبَ المسلمون في زمن عِزّ المسلمين وثبَةً ملأوا بها الأرضَ قوَّةَ وبأساً، وحِكمةً وعِلماً، ورحمة نوراً وهِداية، فماتوا في شرق آسيا وأطراف أفريقيا، وَوَسَطِ أوروبا، وتركوا هُناكَ أثراً لِدِينِهُم وشِرعَتِهُم، ولُغَتِهِم، وعِلمِهِم وأَدَبِهِم.

فقد كانوا بحق خيرَ أُمةٍ أُخرِجت للناس، بعد أن كانوا مُتفرّقين ممزقين، ظٌلمٌ وجُهلٌ.. لا نظام ولا شريعة.. ولعل السؤال المهم: كيف استطاعوا فِعلَ ذلك؟

طبعاً ليس بمالِهم فقد كانوا فُقراء، وليس بقُوَّتِهم فعددهُم قليلٌ جداً نسبةً مع أعداءهم ، وليس بجاههم، فإن الإسلام لم يُعَلّمَهُم الظُلم، إنما استطاعوا بِهِمَّتِهِم العالية التي لا ترضى الدناءة.. فقد كان هَدَفَهُم المعالي في الدنيا، والفردوس الأعلى في الآخرة.

أيها الناس: الهمة هي ذلك الشعور القلبي الذي يدفَعُكَ للعمل.. فالذي لا يعمل ولا يجتهد لم يحصُل على ما يُريد.. مَثَلُهُ كمثل صاحب بُستانٍ أخضَرٍ  يانع، يُجاوِرُ نهراً، وبينهُ وبين النهر كَفٌّ من تُراب.. ذَبُلَ البُستان، وَجَفَّت الثمار، وَسَقَطَت الأوراق، كُلُّ ذلكَ من العطش.. فقام الرَّجُل بدلاً من أن يعمل ويُزيل التراب ليصل الماء إلى البستان؛ قام يُصلي ويَدعو اللهَ أن يُغيث بُستانَهُ..

أيها الأحبة: إن الإنسان نَفسُهُ هو الذي يرفعُ همتَهُ ويُعليها، وهو الذي يُذِلَها، فقد أقسم الله تعالى في كتابه العظيم ثمانية أقسام مُتتالية، والخالق جل جلالُهُ يُقسم بما شاء من مخلوقاتِهِ.. ثمانية أقسام فقال: ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾ ما هو جواب القسمِ يا ربّ؟ ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾.

نعم.. أنتَ من تُزَكّي نفسَكَ وترفع همّتك، وأنتَ من تُدَسّيها وتدفِنُها في التّراب إذا أردت..

أحبتي في الله: الهمة هي العمل والجُهدُ والتضحية والتعب.. فكيف تُريدُ من أبناءكَ أن يكونوا أتقياءَ أنقياء وأنتَ لم تُعَرِّفَهُم حُدودَ الله.. أو أن تُشدد وتُؤكد عليهم في أوامر الله ونواهيه؟

كيفَ تُريدُ من ابنكَ أن يُصبح طبيباً أو مُهندساً مثلاً وأنت لم تجلس مَعَهُ مرّة لترى علاماته في المدرسة أو لتُساعدهُ في واجب أو حل مُشكلة تواجههُ..؟

كيفَ تُريد أن تكون عالماً في أي مجال كان، ولم تُثني رُكبتيكَ عند العلماء ولم تسهر الليالي للمُدارسة؟

كيفَ نُريدُ لدين الإسلام أن يكون الأعلى، ونُريد أن يكون المسلمين كُلُّهُم صادقين غير غشاشين.. نُريد أن يكونوا كُلُّهُم يُصلون.. وشبابنا وبناتِنا أطهار يُحبون الفضيلة، كيفَ نُريدُ ذلكَ ونحنُ نبخل على ديننا بساعة واحدة نزور فيها تارك للصلاة أو حتى نبخل بكلمة نصح واحدة للمسلمين؟

أتظُنونَ أن ذلك سيحصل ونحن نتفرج على الشاشات، ونضع رجلاًعلى رجلٍ ، نُقَلّبُ كفاً على كفٍ ونقول: (الله يصلح الناس.. الله يهدي الناس)..

نرجو من الله الغيث والرحمة وأحدنا يُقسم أنه لو أعطاه الله أموالاً لما أعطى فقيراً..الحمد لله الذي لم يُعطيك..

 أيها الأحباب.. إن الهمة المطلوبة هي تلكَ الهمة التي عَرَفَها صحابة الحبيب ﷺ فَنَجَحوا رُغم فقرِهِم وضَعفِهِم، فملكوا في سنواتٍ قلائل ما بناه الروم والفرس في مئات السنين..

همةٌ عرفها عُلماء المسلمين فقادوا الأمم كُلَّها، وعلموا العالم بأسره، فانتشرت المراصد الفلكية وبنوا المستشفيات، فالمستشفى المنصوري في القاهرة كان مدينَةً طِبّية فيها الحدائق والبرك الاصطناعية، كان يستقبل أكثر من أربعة آلالف مريض في اليوم، يعني 170 مريضاً في الساعة الواحدة، وذلكَ قبل اكتشاف أمريكا بأكثر من 200 سنة.. وأدوات الجراحة التي نستورِدُها اليوم، كان قد رَسَمَها لنا الزهراوي قبل اكتشافها بـ 300 عام.

همةٌ عَرَفَها العًلماء والدعاة، فانتشر الإسلام من المحيط الأطلسي إلى الصين في نحو أربعين سنة..

همةٌ عَرَفَها المُجاهدون، فوقف بسببِها عُقبة بن نافع على شاطئ المحيط الأطلسي، وقال: والله لو أعلم أن خلفَ هذا البحر أناس، لَخُضتُهُ حتى أُبَلِّغُهم دين الله..

همّةٌ عَرَفَها أصحاب الأموال، فما بقي زمن عمر بن عبد العزيز في المسلمين من يحتاجُ إلى المال أو يطلُبَهُ..

همةٌ عرفتها النساءُ المسلمات، فَرَبَّينَ أمثالَ البُخاري وأحمد وربيعةَ الرأي..

همةٌ عرفها الآباء، فحافَظوا على أبناءِهم، يقولُ علي بن العاص: “أعطاني أبي مئة ألف درهم، وقال لي: إذهب ولا تُريني وجهكَ إلى بمئة ألف حديث” فَهَجر الوطن، وضَحّى بمالِهِ ووقتِهِ وجُهدِهِ حتى حصل على أكثر مما يَبغي..

همةٌ عَرَفَها الصبيان، فَرَفَعَتهُم إلى القمة وهُم صِغار.. فَسَمُرَةَ بن جُندب ورافع بن خُدَيج لم يَبلُغا الحُلُم، لهذا رَدَّهُما رسول الله ﷺ في غزوة أُحُد، ولم يقبل أن يخرُجا للجهاد، فصاروا يتحايلان للخُروج، فمنهم من يعرض قُواه، ومنهم من يمشي على رؤوس أصابعه ليظهر أنه بلغ مبلغ الرجال.. فقال الناس: يا رسول الله هذا رافِعُ رامٍ، يعني يُصيب بالرمي، فأجازَه، فقال سَمُرَة: أجزتَهُ وَرَددتَني! والله إني أصرَعُهُ.. ثم وثب عليهِ فَصَرَعَهُ.. فضحك ﷺ وأجازَهُ([1])..

نعم.. إن لَهُم قلوبٌ امتلأت إيماناً..

لَهُم هِمَّةٌ تعلوا على كُلِّ همةٍ *** كما قد على البدرُ النُّجومَ الدَّراريا

أقول ما تسمعون***************

الخطبة الثانية: الحمد لله..

أيها الأحبة إن أعظَمَ هِمَّةٍ في الدنيا هي هِمَّة الحبيب ﷺ ، التي صَنَعَها الله تعالى على عينِهِ، فَعَلَّمَنا كيفَ ترتَفِعُ الهِمم وكيفَ تُبنى النُّفوس..

فَعِندما أراد الله تعالى أن يبعث الحبيب ﷺ رسولاً إلى الناس، أَمَرَهُ بمعرِفَةِ رَبِّهِ؛ فقال له: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾.. و(اقرأ) هُنا لا تعني جريدة ولا كتاب ولا رسالة والا صفحة انترنت.. ولكن (اقرأ) صفحات الكون لِتَتَعَرَّفَ على رِبِّكَ.. اقرأ صفحات جسمِكِ لتتعرّفَ على الله خالِقُكَ.. (اقرأ) تعني إجعل رَبَّكَ خالِقُكَ وخالِقُ الكونِ هو هَدَفَكَ الأسمى، وغايَتُكَ العُظمى.. أُقدُر لَهُ قَدرَهُ، فَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى..

فمن أرادَ هِمَّةً عاليةً وَجَبَ عليهِ إن يَتَعَرَّفَ على العالي جل جلالُهُ وَيَقدُر لَهُ قدرَهُ..

ثُم أعلَمَ اللهُ تعالى نَبِيَّهُ ﷺ أنهُ لا مجال هُنا في ميدان الهمة العالية للكُسالى والمتواكلين، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلاًً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ لماذا يا ربّ؟ ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلاًً﴾.. لِكَي تقدر على حَملِهِ وَجَبَ عليكَ أن تَبني علاقة قوية مع الله، بِعبادَتِهِ.. بقيام الليل كُلَّهُ أو نِصفَهَ أو أقل قليلاً.. ابنوا العلاقة بالطاعات والقُرُبات..

 فمن أرادَ أن يَتَحَمَّلَ مسؤولية أبناءِهِ وأُسرَتِهِ وهي مسؤولية ثقيلة ، وجبَ عليهِ أن يبني علاقة قوية مع الله..

ومن أرادَ أن يَتَحَمَّلَ مسؤولية الأُمّة وهي مسؤولية ثقيلة، وجبَ عليهِ أن يبني علاقة قوية مع الله..

ومن أرادَ أن يَتَحَمَّلَ مسؤولية دينِهِ وهي مسؤولية ثقيلة، وجبَ عليهِ أن يبني علاقة قوية مع الله.. فإنه لا يُعينُ على هذه المسؤوليات سواه..

ثم يقولُ الخالِقُ العظيم للرسول ﷺ: ﴿إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا﴾، أي ليس عليكَ فقط أن تجتَهِدَ في الليل، بل في النهارِ أيضاً ﴿ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا﴾ كي تزدادُ العلاقة وتنمو..

وبعد أن تزداد العلاقة مع الله وترتفعَ إلى أعلى الدرجات، وتُصبح الهمة عالية، جاء دورُ العمل الحقيقي، فَنَزَلت الآيات: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ﴾.

فأينَ أيها الأحبة تلكَ الهمة التي تطرُد الكسل، فبعضُ الناس إذا سألتَهُ: لماذا لا تُصلي؟ يقول: كَسَل.. أي كَسلٍ هذا الذي يُقعِدُكَ عن أمرِ الخالق جل جلالُهُ؟

أو مثلَ ذلكَ الرجُل الذي سمع حديث (ولولا البهائم لم يمطروا) وهو حديثٌ صحيح([2]) قال: “يا الله بنروح في العُروة”.. أيُ ضعفٍ وخَوَرٍ هذا؟ لماذا لا تكونَ أنتَ من يُمطَرُ الناس كُلُّهُم بسبب أخلاصِه.. أو بسَبَبِ دُعائه، أو بسبب توبَتَهُ الصادقة؟

أيها الأحبة: إن فهم القرأن الكريم، وسُنة الحبيب ﷺ من أعظم الدوافع لرفع الهمة، فمن فَهِمَ مثلاً قولَهُ تعالى: ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ لابُدَّ أنَّ همتَهُ سَتَرتَفِع وسَيُحسِنُ في عملٍه لينال محَبَةَ الله..

ومن فَهِمَ قولَهُ تعالى: ﴿ قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ﴾ سَتَرتَفِعُ هِمَّتَهُ فلا يلجأ إلى غير الله في مَصائِبِهِ كُرُباتِهِ..

ومن فَهِمَ قولَهُ ﷺ: (أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس)([3]) لابُدَّ أن ترتَفِعَ هِمَّتَهُ وتسمو ليكونَ هَدَفَهُ محبَّة الله لهُ بنفعِهِ للناس..

والتاجر الذي فَهِمَ قوله ﷺ: (التاجر الأمين الصدوق المسلم مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة)([4]) قطعاً سَترتَفِعَ هِمَّتَهُ وتسمو ليكونَ صادِقاً أميناً..

وعندما نَفهم قولَهُ ﷺ: (ثلاث أقسم عليهن) ومنها (ولا عفا رجلٌ عن مَظلمةٍ ظُلِمَها إلا زاده الله تعالى بِها عزاً، فاعفوا يزدكم الله عزاً)([5]) سيمتلئ المجتمعُ بالمُسامحة والحب والرحمة..

أيها الإخوة الكرام، أيتها الأخوات الكريمات، هلا كان ذوي الهمة العالية لنا أُسوة، فنَحمل في قُلوبِنا همةً تَدفَعُنا عند سماع الأذان إلى تلبة النداء.. وتَدفَعُ قاطع الرَّحمِ إلى وَصلِها، وتَدفَعُ  مانع الزكاة إلى أداءها..

اللهم يا ربّنا غفر لنا ذنوبنا..

(1) الحديث أخرَجه أحمد والحاكم وهو صحيح، الاستيعاب 301.

(2) حديث رقم: 5204 في صحيح الجامع.

(3) السلسلة الصحيحة 906.

(4) السلسلة الصحيحة 3453.

(5) حديث رقم: 3025 في صحيح الجامع.

خطبة الصحبة

نتيجة بحث الصور عن الصحبة الصالحةخطبة الصحبة * 8-2-2019م

إِنّ الحَمْدَ للهِ نَحمَدُهُ ونَستَعِينُهُ ونَستَهْدِيهِ ونَشْكُرُهُ، ونَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا وَسَيِّئاتِ أَعْمالِنا، مَن يَهْدِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَن يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى سَيِّدِنا محمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ وعَلَى ءالِهِ وصَحْبِهِ ومَن والاهُ.

أَمَّا بَعْدُ عِبادَ اللهِ فَإِنِّي أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ، في السِّرِّ والعَلَنِ، اتَّقُوا اللهَ وأَطِيعُوهُ وتُوبُوا إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وٱسْتَغْفِرُوهُ، إنه هو الغفور الرحيم.

أما بعد، فإن عنوان الخطبة هو الصحبة الصالحة.. تلك الصحبة التي سماها النبيّ ﷺ: الجليس، انظروا إلى هذا التشبيه العجيب، قال ﷺ: «مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالسَّوْءِ، كَحَامِلِ المِسْكِ وَنَافِخِ الكِيرِ، فَحَامِلُ المِسْكِ: إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الكِيرِ: إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً»[1]..

فحامل المسك لا ينالك منه إلا الريح الطيبة، وإن بخل عليك بما لديه، فالصاحب الصالح باختصار هو النافع، انظروا إلى رسول الله ﷺ أفضل صديق عرفته الكرة الأرضية، بعد أن انتهى من دعوة عشيرته الأقربين اتجه لينفع أصحابه وبدأ بأبي بكر رضي الله عنه، الذي استجاب دون تردد، ثم اقتدى أبو بكر بصاحبه، فبدأ بنشر الخير بين أصحابه، فجاء بأصدقائه عثمان، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم وقد أسلموا..

بينما عقبة بن أبي معيط جلس إلى رسول الله ﷺ، فذكّره بعظمة الله، ورغَّبه في الإسلام، فكاد أن يُسلم، بل جاء في رواية عبد الرزاق في مصنفه أنه أسلم وشهد الشهادتيْن، فلما سمع أُبيُّ بنُ خلفٍ وهو صاحب عقبةُ، أتاهُ يُهرول فقالَ له: “ألم يبلغني أنك جالست محمدًا وسمعت منه! وجهي من وجهك حرام أن أكلمك إن أنت جلست إليه أو سمعت منه، أو لم تأتِه فتتْفُلَ في وجهِه، فتأثر عقبة بكلام صاحبه، وفعلَ، فأنزل الله: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27)} (الفرقان).

لهذا -أيها الأحبة- حذّرنا رسول الله ﷺ فقال لنا: «الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ»[2]، فالصاحب الصالح ينفعك في الدنيا، ولا يضُرّك، وينصح لك ولا يخونك، ويكتم سرَّك ولا يفضحك، ويأمرك بالخير وينهاك عن الشر، ويُحب لك ما يُحب لنفسه، ويُسمِعك العلم النافع، والقول الصادق، والحكمة البليغة، ويبصِّرك آلاء الله، ويعرِّفك عيوب نفسك، ويشغلك عما لا يعنيك، إن غفلتَ ذكَّرك بالله، وإن أسأت خوَّفك من عذابه، تذكره بالخير إذا غاب، وتُسَر بحديثه إذا حضر، ويشهد بك مجالس العلم، وحِلَق الذكر، والمساجد، ويزين لك الطاعة، ويقبح لك المعصية، وإن كان قادراً: سَدَّ خَلَّتك، وقضى حاجتك، ثم لا تحتاج بعد الله إلى سواه، فقد جاء في الحديث أن رَسُولَ اللهِ ﷺ سُئلَ: أَيُّ جُلَسائِنا خَيْرٌ؟ فقالَ: «مَنْ ذَكَّرَكُمْ بِاللهِ رُؤْيَتُهُ، وزادَكُمْ في عِلْمِكُمْ مَنْطِقُهُ، وذَكَّرَكُمْ بِالآخِرَةِ عَمَلُهُ»[3].

الصاحب الصالح ينفعك إذا مِتَّ، فلا ينساك من دعائه، ويذكرك بالخير، فينشر خيرك، ويكتم عوراتك، لأنه سَمِعَ ووعى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ (10)} (الحشر).

والصاحب الصالح ينفعك بعدما يموت أيضًا، فقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ” خَلِيلانِ مُؤْمِنَانِ, وَخَلِيلانِ كَافِرَانِ, فَمَاتَ أَحَدُ الْمُؤْمِنِينَ فَبُشِّرَ بِالْجَنَّةِ فَذَكَرَ خَلِيلَهُ , فَقَالَ : اللَّهُمَّ إِنَّ خَلِيلِي فُلانًا كَانَ يَأْمُرُنِي بِطَاعَتِكَ وَطَاعَةِ رَسُولِكَ, وَيَأْمُرُنِي بِالْخَيْرِ, وَيَنْهَانِي عَنِ الشَّرِّ  وَيُنَبِّئُنِي أَنِّي مُلاقِيكَ, اللَّهُمَّ فَلا تُضِلَّهُ بَعْدِي حَتَّى تُرِيَهُ كَمَا أَرَيْتَنِي، وَتَرْضَى عَنْهُ كَمَا رَضِيتَ عَنِّي…” فهو نِعْمَ الأَخُ، وَنِعْمَ الصَّاحِبُ، وَنِعْمَ الْخَلِيلُ، “وَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الْكَافِرِينَ بُشِّرَ بِالنَّارِ , فَذَكَرَ خَلِيلَهُ , فَيَقُولُ : اللَّهُمَّ إِنَّ خَلِيلِي كَانَ يَأْمُرُنِي بِمَعْصِيَتِكَ وَمَعْصِيَةِ رَسُولِكَ , وَيَأْمُرُنِي بِالشَّرِّ , وَيَنْهَانِي عَنِ الْخَيْرِ , وَيُنَبِّئُنِي أَنِّي غَيْرُ مُلاقِيكَ , اللَّهُمَّ فَلا تَهْدِهِ بَعْدِي حَتَّى تُرِيَهُ كَمَا أَرَيْتَنِي , وَتَسْخَطَ عَلَيْهِ كَمَا سَخِطْتَ عَلَيَّ…”، فهو بِئْسَ الأَخُ , وَبِئْسَ الصَّاحِبُ, ثُمَّ قَرَأَ قوله تعالى: {الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ} (الزخرف:67)[4].

والصاحب الصالح لا تندم على صحبته، لا في الدنيا ولا في الآخرة، قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا (29)} (الفرقان).

أيها الأحبة الكرام، يقول أحد الحكماء: “صاحب العقلاء تُنسب إليهم وإن لم تكن منهم، ولا تصاحب الجهال فتُنسب إليهم وإن لم تكن منهم” فكم في السجون من أُناس سحبهم صاحبهم، وكم أدمَن الخمر والمخدرات أشخاص بسبب أصحابهم، وفي المقابل: كم من الناس كانوا على شفا جُرفٍ هارٍ فأنقذهم الله من النار بصاحبهم الصالح، لهذا أمر الله رسوله ﷺ المسلمين بمفارقة مجالس السوء قائلاً له: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (الأنعام:68)، وقد صدق القائل:

إذا كنت في قوم، فصاحب خيارهم

*** ولاتصحب الأردى،  فتردى مع الردي

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية، الحمد لله…

أيها الأحبة الكرام، إن الأمر باتخاذ الصاحب الصالح والبُعد عن الصاحب السيء عام لكل الناس، لكنَّ رسول الله ﷺ خصَّ فئتين من الناس بهذا، أكثر من غيرهم؛ لأنه بصلاحهم يصلحُ المجتمع، وبضلالهم يضل المجتمع، هم العلماء والأمراء، فقال ﷺ: «مَا بَعَثَ اللهُ مِنْ نَبِيٍّ، وَلاَ اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيفَةٍ، إِلَّا كَانَتْ لَهُ بِطَانَتَانِ: بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، فَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللهُ تَعَالَى» أخرجه البخاري، وفي رواية الترمذي: «إِنَّ اللهَ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا وَلَا خَلِيفَةً إِلَّا وَلَهُ بِطَانَتَانِ بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَاهُ عَنِ المُنْكَرِ، وَبِطَانَةٌ لَا تَأْلُوهُ خَبَالًا، وَمَنْ يُوقَ بِطَانَةَ السُّوءِ فَقَدْ وُقِيَ»، وفي رواية لأبي داود: «إِذَا أَرَادَ اللهُ بِالْأَمِيرِ خَيْرًا جَعَلَ لَهُ وَزِيرَ صِدْقٍ، إِنْ نَسِيَ ذَكَّرَهُ، وَإِنْ ذَكَرَ أَعَانَهُ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهِ غَيْرَ ذَلِكَ جَعَلَ لَهُ وَزِيرَ سُوءٍ، إِنْ نَسِيَ لَمْ يُذَكِّرْهُ، وَإِنْ ذَكَرَ لَمْ يُعِنْهُ»[5].. فليحذر هؤلاء من أن تَجُرَّهم بطانتهم إلى النار.. فيُينون لهم القوانين والقرارات التي تُخالف شرع الله، والظالمة لعباده، المخالفة لهديه، فيَضِلوا ويُضِلوا..

أيها الأحبة الكرام، من نُصاحب؟ كيف نختار أصحابنا؟

اختصر لنا الرسول ﷺ كل الكُتب والمقالات والندوات والدروس والخطب التي تتحدث عن اختيار الصحبة، في أربع كلمات فقط، فقال: «لا تُصَاحِبْ إِلاَّ مُؤْمِنًا».. فقط.. هذا الصاحب الذي ينفعك ويأخُذ بيدك إلى رضوان الله والجنة.. قال بعضهم:

إذَا لَمْ يَكُنْ صَفْوُ الْوِدَادِ طَبِيعَةً

*** فَلاَ خَيْرَ فِي وُدٍّ يَجِيءُ تَكَلُّفَا

وَلاَ خَيْرَ فِي خِلٍّ يَخُونُ خَلِيلَهُ

*** وَيَلْقَاهُ مِنْ بَعْدِ الْمَوَدَّةِ بِالْجَفَا

وَيُنْكِرُ عَيْشًا قَدْ تَقَادَمَ عَهْدُهُ

*** وَيُظْهِرُ سِرًّا كَانَ بِالأَمْسِ قَدْ خَفَا

سَلاَمٌ عَلَى الدُّنْيَا إِذَا لَمْ يَكُنْ بِهَا

*** صَدِيقٌ صَدُوقٌ صَادِقُ الْوَعْدِ مُنْصِفَا

اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات…

[1] رواه البخاري (5534)، ومسلم (2628).

[2] أخرجه أبو داود (4833)، وحسنه الألباني في تحقيقه له.

[3] أخرجه عبد بن حميد (631)، والبيهقي في الشُّعب (9000)، وأبو يعلى (2437) وقال محققه: إسناده لين.

[4] منقول بتصرف، وقد أخرجه عبد الرزاق في المصنف (8822)، وابن أبي حاتم في تفسيره (18519)، ورجالهما ثقات سوى الحارث  الهمداني، متكلم فيه، وقد وثق.

[5] أخرجه البخاري (7198)، والترمذي (2369)، وأبو داود (2932).

خطبة الانترنت والأخلاق

صورة ذات صلة(الانترنت والأخلاق) 16-2-2018

الحمد لله القائل: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)} (البقرة).

أشهد أن لا إِله إلا الله، حذّرنا أشد التحذير من اتباع اليهود، والسير على خُطاهم، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)} (سورة المائدة).

وأشهد أن محمداً ﷺ عبدُه ورسولُه، وقف أمام الناس، وقال: (لَيَحْمِلَنّ شرار هذه الأمّة على سَنَنِ الذين خلَوا من قبلهم- أهل الكتاب- حذو القُذَّةِ بالقُذَّة) أو (حذو النعل بالنعل)[1]..

أما بعد، فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله، والسير على سبيل النبي ﷺ، فهو سبيل النجاة والنجاح، وأحذركم بعد أن أحذر نفسي من تعدي حُدُودَهُ، فالله يقول: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) } (سورة البقرة).

أيها الأحبة الكرام: نحن نعيش في هذا العصر انفتاحاً عالمياً وثورة معلوماتية وتقنيات حديثة لها آثار خطيرة على شبابنا وفتياتنا الذين هم عماد الأمة وسبيل نهضتها وهم زينة حاضرها وأمل مستقبلها ولذا صَوَّبَ الأعداء لهم سهامهم ورموهم عن قوس واحدة، قال تعالى: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ (المائدة: 82)، أجل، إنهم أشد الناس عداوة للمؤمنين، ويستغلون كل وسيلة ممكنة لتحقيق هذه العداوة، المتمثلة في سَلخ المسلم عن عقيدته وعباداته وأخلاقه، وخَصّوا فئة الشباب منهم، فقد حاولوا تضليلهم وإغرائهم عن طريق وسائل الإعلام المختلفة وأخطرها وأكثرها ضرراً الإنترنت الذي يبثون فيها أخلاقهم العفنة، ويشوهون صورة الخير وأهله، ويُزينون ويُزخرفون الشر والكفر والإلحاد وأهله، ليقضوا على أخلاق شباب المسلمين، إناثهم وذكورهم.

كما أنهم ينشرون الأفكار الضارة بالدين والمتمثَّلة في الزعزعة الإيمانية بنشر الشبهات للتشكيك في المبادئ والقيم، والإساءة إلى الدين والقرآن والرسول صلى الله عليه وسلم، ونشر العقائد الفاسدة والأفكار المنحرفة كالوجودية والإلحاد والإباحية، ويستخدمون لذلك كل وسيلة ممكنة، حتى المشايخ المزَوَّرين المأجورين، والأقلام المسمومة، والشهوات المذمومة.

أيها الأحبة، وإن من أشد هذه الوسائل ما يُسمى بمواقع التواصل الاجتماعي، التي استغلها أعداءُ الدينِ أيما استغلال، فكم أسقطوا بواسِطَتِها من المسلمين في شَرَك العمالة، والسفالة، والانحطاط والنذالة، فكانوا أداة لهم يهدمون بها الدين والشعب والوطن.

كما أن من أكبر الجرائم التي تحصل بين المسلمين في الإنترنت ووسائل التواصل، والتي يتولى كِبرها اليهود؛ الفتنة الداخلية، المذهبية منها والحزبية، لتبقى العداوة بين أبناء المجتمع قائمة، كما كان يفعل سيدهم شاس بن قيس مع الأوس والخزرج قبل أكثر من 1430 سنة، فهم يعون جيدًا أن المسلمين إذا كانت بينهم العداوة قائمة فلن تقوم لهم قائمة.

وقد نجحوا بكل أسف، حتى وصلَ الأمَرُ إلى استغلال بعض المسلمين هذه المواقع فيما بينهم للفسادِ والإفساد، ومعصية ربّ العباد، والعلاقات المـُحَرَّمة والشات، والمواعيد والاتصالات، بين الشباب والبنات، حتى الأطفال أصبحوا مدمنين على هذه المواقع.

هذا النغف الذي نَخَرَ في جسم الأمة، وأي أُمة؟ خير أُمةٍ أُخرجت للناس، فانحطت الأخلاق، وماتت الهمم، وتراجع الشباب والبنات في دراسَتِهِم إلى أسوأ نسبة بعد أن تراجعوا في أخلاقهم وقد كانوا في القمة، وبهذا -أيها الناس- يَحِلُّ الغضبُ الربانيُّ، ويُفتَحَ باب العذاب الإلهي على مصراعيه، فقد سألت زينب بنت جحش رضي الله عنها النبي ﷺ فقالت: يا رسول الله أنهلكُ وفينا الصالحون؟ قال: (نعم إذا كَثُرَ الخبث)[2].

كيفَ بِرَبِّكُم يكثُرُ الخبث؟ أليس بمُخالفة العقيدة الربانية الصحيحة، الفطرة السليمة، والأخلاق القويمة؟ اسمعوا إلى قول المستشرق الإسباني “خوسيه أنطونيو كوندي” صاحب كتاب “تاريخ حُكّام العرب في إسبانيا”، وهو يقول: “إن العرب قد سقطوا عندما نَسُوا فَضَائِلَهُم التي جاءوا بها، وأصبحوا على قلبٍ متقلبٍ يميلُ إلى المَرَحِ والاسترسالِ بالشهواتِ”[3].

أيها الأحبة الكرام، إن الانترنت -كما تعلمون- سلاح ذو حدين، خيرٌ وشرٌّ، فخيره وشره مرتبط بمراقبتنا لربنا، مرتبط بيقيننا على قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، وقوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ [التوبة:78]، وقوله تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمْ اللهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المجادلة:6]،وقوله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 10,12]،.

خير الانترنت وشره مرتبط بالخشية والتعظيم لله تعالى، ومتى ما انفرط عقدها من حياة الإنسان وخلي منها القلب ضاع مصير هذا الإنسان، وضل عن الطريق، وتاه عن صراط الله المستقيم، وقد عرض النبي حالة توجل منها القلوب وتذرف منها الدموع حين قال: ((ليأتين أناسٌ من أمتي معهم حسنات كجبال تهامة بيض، يكبهم الله تعالى على وجوههم في النار))، قال ثوبان: صفهم لنا يا رسول الله! جلهم لنا! فقال : ((يصلون كما تصلون، ويصومون كما تصومون، ولهم ورد من الليل، غير أنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها))[4].

خير الانترنت وشره مربوط بتذكرنا الشهود والسجلات التي سوف تُنشر بين يديك يوم القيامة، {وَوُضِعَ ٱلْكِتَـٰبُ فَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يٰوَيْلَتَنَا مَا لِهَـٰذَا ٱلْكِتَـٰبِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]، {وَكُلَّ إِنْسَـٰنٍ أَلْزَمْنَـٰهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ كِتَابًا يَلْقَـٰهُ مَنْشُوراً ٱقْرَأْ كَتَـٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:13، 14].

أقول قولي هذا..

الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين…

أيها الناس.. لعل سائلاً يسأل: من هو المسؤول عن علاج هذه آثار؟

والحق كُل مسلمٍ يقول: لا إِلهَ إلا الله هو مسؤول عن علاجه، بأن يزرع مخافة الله ومراقبته في قلبه وقلوب الناس، فالحاكم مسؤول أمام الله عن أخلاق شعبه إذا لم يُرشدهم إلى الأخلاق الحسنة التي أرادها الله. والأب مسؤول عن أبنائه وَجَبَ أن يُراقبهم ويُوجههم لما يُريدُ الله، والأم مسؤولة في بيتها وجَبَ أن لا تألوا جُهداً حتى تُربيهم كما يُريد الله، والجار مسؤول في حارته وَجَبَ أن يُبلغهم ما أراد الله، والمدرّس مسؤول في مدرسته يجب أن يضع أمام عينيه مخافة الله، (وكلكم راعٍ وكُلّكُم ومسؤول عن رعيته) كما قال رسول الله، فَبِهِمَّة الجميع.. شباباً وشياباً.. رجالاً ونساءً، وبتوفيق الله وعونه قبل هذا وذاك؛ يصلح المجتمع، ويصلح الشباب، وتندثر الرذيلة والأخلاق العفنة، وبتضافرهم يتذكر شباب الأمة وشيابها أنهم حماة هذا الدين، وأنهم المدافعين عن عقيدته وأخلاقه..

يا قوم أنتم حُماةَ الدين فانتبهوا *** لا يؤتينَّ، وعيش الذل نأباهُ

قومٌ قضى الله أن العز يتبعَهُم***إن طبقوا الدين في أسمى مزاياهُ

قوم قضى الله أن تسموا مراكِبَهُم إن عانقوا الشرعَ واستنوا بتقواهُ

أهدى إليهم كتابًا فيه ذكرهمُ *** فمن تمسَّك بالقرآن زكَّاهُ

ومن تَحَصَّنَ بالإسلام حصَّنهُ *** ومن تَعَلَّقَ بالأخلاق أحياهُ

أنتم خلائف خير الخلق، لا تهنوا في سورة النور والأحزاب ذكراهُ

عَزْمُ الصحابة معقودٌ بهمتكم * لا يملك الظلم مهما طال يمحاهُ

اللهم يا ربنا احفظ شبابَنا وبناتنا حتى لا ينزلقوا بعيداً عن الحق وعن الدين وعن الأخلاق.. وَرُدّهم يا ربنا إلى دينك ردًّا جميلا..

اللهم يا ربنا من أراد بأخلاق شباب وبنات المسلمين خيراً فوفقه لكل خير..

الهوامش..

[1] رواه أحمد وغيره، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم 3312. قال ابن الأثير في النهاية: “«حَذْوَ القُذَّة بالقُذَّة» أَيْ كَمَا تُقَدَّر كلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى قَدْر صاحِبتها وتُقْطَع. يُضرب مَثَلًا للشَّيئين يَسْتويان وَلَا يَتَفَاوَتَانِ”.

[2] رواه البخاري ومسلم، انظر صحيح الترغيب رقم 2311.

[3] مقال “أثر انهيار الأخلاق في انهيار الحضارات” د. راغب السرجاني.

[4] أخرجه ابن ماجه (4245)، والطبراني في الأوسط (4629)، والروياني في مسنده (651)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (505).