خطبة: مُشفقون 24-9-2021م

خطبة: مُشفقون 24-9-2021م

الخوف من الله.. هكذا يكون

الحمد لله الذي هَدى بالقرآن العقول القلوب، وأنزَلَهُ في أوجزِ لفظٍ وأعجزِ أسلوب، فأعيت بلاغته البلغاء، وأعجزت حِكمته الحكماء.. أشهد أن لا إِله إلا هو وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله الأبرار وصحبه الأخيار، ما تعاقب الليل والنهار، وسلم تسليمًا كثيرًا.أما بعد: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.


فمن ضيَّع التقوى وأهمل أمرَها ** تغشَّتهُ في العقبى فنونُ الندامةِ

أيها الأحبة الكرام، يقول الله تعالى في وصف المؤمنين: ﴿وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26)﴾ والذي يُصدق بيوم الدين لابد له أن يُطبق هذا الإيمان وهذا التصديق عمليًا في حياته ليكون من الفائزين، فيبقى في حياته بين الخوف والرجاء، لهذا قال تعالى بعدها: ﴿والَّذين هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27)﴾ (المعارج)، وهذه قاعدة قُرآنية لو أنّ كل واحد منا طبقها في حياته لَصَلُح المجتمع كله.. لصلحت علاقتنا مع الله.. لصلحت العبادات وصلحت الأخلاق وصَلحَت المعاملات.. فالذين ﴿هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ﴾ لا يعبدون غير الله ولا يُشركون معه أحدًا.. ﴿والَّذين هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ﴾  يُتقنون عباداتهم حق الإتقان ويُراقبونه في كل حركاتهم وسكناتهم.. ﴿والَّذين هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ﴾  يُحَسِّنون أخلاقهم ومعاملاتهم حق الإحسان.. ﴿والَّذين هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ﴾  لا يعتدون على الآخرين ولا يظلمونهم.. ﴿والَّذين هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ﴾  لا يأكلون حقوق الناس حتى ولو كان عودًا من أراك.. ﴿والَّذين هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ﴾  لا ينشرون الفساد في المجتمع.. ولا ينشرون الإشاعات التي تؤدي إلى الفتنة وترويع الآمنين وتهييج المشاعر بالشر.. ﴿والَّذين هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ﴾  لا يقتلون النفس التي حرَّم الله، ولا يسجنوا عباد الله ليُفرقون بين المرء وزوجه وأولاده.. ولا يُلصقون بهم التُّهَم الجاهزة المُعلَّبة.  ﴿والَّذين هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ﴾ لا يغُشّون الناس ولا يكذبون عليهم.. ﴿والَّذين هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ﴾ لا يُفتون بما يُخالف أمر الله لأجل فلان أو علان، فخشيتهم من عذاب ربِّهم تردعهم عن الوقوع في غضبه، وشعارهم الذي لا يُفارق أعيُنَهم ولا عقولهم: ﴿إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا﴾..

انظروا إلى سيد الخلق أتقى الناس وأخشاهم لله، تقول زوجته وحبيبته عائشة رضي الله عنها: “والله ما انتقم لنفسه في شيء يؤتى إليه قط حتى تنتهك حرمات الله عز وجل، فينتقم لله عز وجل”، فلم يكن يصنع مشكلة وطوشة من كل صغيرة وكبيرة.. هو بشر يرضى ويغضب، لكن غضبه لا يحمله على مجاوزة الحق، لأنه من ﴿الَّذين هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ﴾.

وفي يوم من الأيام اختلف صحابيان على حدود أرض، هذا يقول حَدّي هنا، والآخر يقول: حَدّي هنا، فاحتكما إلى النبي ﷺ، فقال لهم: (إنَّكم تختصمونَ إليَّ وإنَّما أَنا بشرٌ، ولعلَّ بعضَكُم أن يَكونَ ألحنَ بحجَّتِهِ مِن بعضٍ، وإنَّما أقضي بينَكُم على نحوٍ مِمَّا أسمعُ، فمَن قضيتُ لَهُ من حقِّ أخيهِ شيئًا فلا يأخذْهُ، فإنَّما أقطعُ لَهُ قطعةً منَ النَّارِ يأتي بِها إسطامًا في عنقِهِ يومَ القيامة) فبَكَى الرَّجلانِ، وقالَ كلٌّ منهما: حقِّي لأخي.. لماذا؟ لأنهما من ﴿الَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ﴾ لماذا لا يفعل المسلمون اليوم مثلهما؟ لماذا لا نقتدي بهم حتى نقطع دابر كل شر وفتنة بين المسلمين؟

هل تُريدون مثالاً آخر؟ أراد أحد الأمراء أن يتزوج امرأة مُطلَّقة قبل انقضاء عدتها، فأفتى الإمام السرخسي رحمه الله بأن ذلك لا يجوز حتى تنقضي العدة، فحبسه خمسة عشر عامًا في بئر، ألا يستطيع السرخسي أن يُداهن ويتحايل للأمير؟ بلى، لكنه من ﴿الَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ﴾ فلا مُداهنة في الدين، فأين الذين يُوَقِّعُون للطغاة على إعدام وسجن الأبرياء، ويُبررون ظُلم الظالمين وفساد الفاسدين؟

ولا يقولنّ أحدٌ -أيها الأحبة- هؤلاء أنبياء وصحابة وعلماء؛ لأن هذه “حجة المفلّسين”!، فهؤلاء هم القدوة الحسنة لكل مُسلم، يقول رب العزة جل جلاله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾ (المؤمنون)..

فمن يخشَ الله، ويخاف أن يلقاه وهو عليه غضبان؛ تراه يُسارع إلى كل فعل أو قول فيه خير.. يُنفق من ماله ليرضى الله.. يُنفق من وقته ليرضى الله.. يُنفق من جُهده ليرضى الله.. يُسامح من اعتدى عليه ليرضى الله.. يتحمل الأذى ليرضى الله.. حتى أنه ليُضحي بنفسه لأجل أن يرضى الله..

ومَن لم يُشفِق مِن ذُنوبِهِ في الدنيا، فَسَيُشفِق يَومَ لا يَنفَع الإِشفاق، وَلا ينجِي النَّدَم، قَالَ تَعَالى: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)﴾ (الكهف).

أقول قولي هذا…….

الخطبة الثانية: الحمد لله……

أيها الأحبة الكرام، هل تظُنون أن الله تعالى سينسى عبدًا كان مُشفقًا من غضب ربه ومن سخطه؟ كلا والله، ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًا﴾.. فمن كان في هذه الدُّنيا مُشفقًا من عذاب الله ومن غضبه فإن له ثلاث جوائز:

الجائزة الأولى: أن يكون هذا الخوف سبيل النجاة والأمن يوم القيامة، يقول رب العزة جل جلاله في الحديث القُدسي الصحيح: «وَعِزَّتِي لا أَجْمَعُ لِعَبْدِي أَمْنَيْنِ وَلا خَوْفَيْنِ، إِنْ هُوَ أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا أَخَفْتُهُ يَوْمَ أَجْمَعُ عِبَادِي، وَإِنْ هُوَ خَافَنِي فِي الدُّنْيَا أَمَّنْتُهُ يَوْمَ أَجْمَعُ فِيهِ عِبَادِي».. يُؤَمّنه يوم الفزع الأكبر.. وعند البعث والنشور.. ويؤمّنه عند الحشر وعند الحساب.

الجائزة الثانية: يُحَرِّم الله عليه النار، قال تعالى عن عِبادِهِ المتّقين: ﴿قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ﴾ (الطور).

أما الجائزة الثالثة: فإن مصيره النهائي في جنات الخُلد، قال جل جلاله: ﴿تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22)﴾ (الشورى).

أسأل الله تعالى أن لا يحرمني وإياكم من ذلك الأجر وتلك الجوائز.. اللهم أصلح أحوال المسلمين……