رمضان يجلي القلوب

رمضان يجلي القلوب 12/4/2024 3 شوال 1445

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إِله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ (الأحزاب).

أما بعد أيها الأحبة، شهر رمضان سُوقٌ قام ثم انفض، ربح فيه من ربح، وخسر فيه مِن خسر، فكم سَجَدَ فيه مِن ساجد؟ وكم ذَكَر فيه مِن ذاكرٍ؟ وكم شَكَرَ فيه مِن شاكرٍ؟ وكم خشع فيه مِن خاشع؟ وكم فرّط فيه مِن مفرِّط؟ وكم عصى فيه مِن عاص؟ ارتحل شهر الصوم، فما أسعد الفائزين الصادقين، وما أطيب عيش المقبولين، الذين جعلوا رمضان فرصة لتطهير قلوبهم، وما أذل نفوس العُصاة المذنبين، وما أقبح حال المُسيئين المفرطين، الذين ما استغلوا رمضان لتطهير قلوبهم وتزكيتها وتنظيفها، فما زال فيها بواقي من الغل والحسد والحقد والظلم..

ليت شعري كيف أمضى نهار رمضان مَن يرى الجوعى في غزة يتضورن، بل يموتون من الجوع والقصف والنار، وهو جالس على كُرسيه، أو فرشته ويشاهد التلفاز، ويَتثاءب بعد انتهاء كل حلقة من المسلسل، ألم يسمع بما روي عن النبيِّ ﷺ: (مَن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم) (الطبراني في المعجم الصغير)، وإن كان الحديث في سنده ضعفٌ، لكن معناه صحيح، قال شُرَّاح الحديث: “معناه: أن الذي لا يهتم بأمورِ المسلمين بنصيحتِهِم والدفاعِ عنهُم إذا تعرضوا لخطر، وبِنَصرِ المظلوم منهم، وردع الظالم، ومساعدتهم على عدوهم، ومواساة فقيرهم، إلى غير هذا من شئونهم، ليس من أهل الإيمان الصادق الكامل”.

ليت شعري كيف أمضى ليلَ رمضان مَن سمع بمن لا مأوى له في غزة يأويه، ولا خيمة تحميه من حَرٍ ولا بردٍ ولا مطرٍ، وفي فمه أرجيلة، وأصابعه تكتب على جواله التعليقات ويتفاخر باللايكات، وكأنه أدى ما عليه تجاهَهُم وزيادة، ألم يسمع بقول النبيِّ ﷺ: (ليس بمؤمنٍ من بات شبعان وجارُه إلى جنبِه جائعٌ وهو يعلمُ) (صحيح الجامع 5382)؟

ليت شعري كيف أمضى نهارَ رمضان أصحاب البدلات المكوية، وربطات العنق المطوية، الذين بيدهم الحَلُّ والعَقدُ، ولم يقدر أحد منهم على إدخال لقمة للجائعين المضطهدين المظلومين، وبعضهم لم يُحاول، بل بعضهم لا يُريد، ألم يسمعوا قول النبيِّ ﷺ: (مَا مِن عبدٍ يسترعِيهِ اللهُ رعيَّةً، يَمُوتُ يومَ يَموتُ وهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ؛ إلا حَرَّمَ اللهُ علَيهِ الجَنَّةَ) (متفقٌ عليه)، هذا كان غاشًّا لهم، فكيف بمن رآى أطفالهم يموتون ولم يحرك ساكنًا؟ كيف بمن رآهم يتشردون ولم يُحرك سوى كلمات الإدانة والشجب التي تخرج على استحياء؟

كيف ناموا ليلهم واستمتعوا بأوقاتهم وهم يسمعون قول النبي ﷺ: (مَا مِن أَمِيرٍ يَلِي أُمورَ المُسلِمينَ، ثُمَّ لا يَجْهَدُ لَهُم ويَنْصَحُ لهُم؛ إلا لَم يَدخُل مَعَهُمُ الجَنَّة).. ضعوا ألف خط أحمر تحت قوله: (ثُمَّ لا يَجْهَدُ لَهُم ويَنْصَحُ لهُم)..

كيف أمضى نهار رمضان أصحاب الإعلام المسموم الأصفر الفتَّان، وصفحات النفاق المأجورة، الذين يبثون السموم، ويُروجون لروايات المجرمين قتلة الأطفال، ألم يسمعوا قول النبيِّ ﷺ: (مَنْ لَمْ يَدعْ قَوْلَ الزُّورِ والعمَلَ بِهِ فلَيْسَ للهِ حَاجةٌ في أَنْ يَدَعَ طَعامَهُ وشَرَابهُ) (البخاري).

أيها الأحبة، رمضان شهر تنظيف القلوب، أليست الغاية من الصيام ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾؟ والتقوى هي عَمَار القلب بالإيمان، اسمعوا إلى هذا الحديث الذي نسمعه تقريبًا كل يوم، يقول النبي ﷺ: (المسلمُ أخو المسلمِ، لا يخونُه، ولا يكذِّبُه، ولا يخذُلْه، -ولا يُسلمه- كلُّ المسلمِ على المسلمِ حرامٌ، عِرضُه، ومالُه، ودمُه) ثم قال ﷺ: (التقوى ها هنا) وأشار إلى القلبِ، يعني هذه الأعمال يعني أن لا تخون أخاك ولا تَكذب عليه ولا تُسلِمَهُ لعدو أو تسمح لعدوٍ أن يؤذيه، وأن لا تؤذيه أنت في عِرضه أو ماله أو دمه إنما هي دلالة على سلامة قلبك، ثم بيَّن النبي ﷺ أن هذه الأعمال خطيرة للغاية، حيث تغمس صاحبها في الشر والإثم غمسًا عندما أنهى الحديث بقوله: (بحسْبِ امريءٍ من الشرِّ أن يحقِرَ أخاه المسلمَ) (صحيح الجامع: 6706)، فإذا كان مجرد احتقار أخيه يكفيه شرًا وإثمًا وعذابًا ونارًا، فما بالكم بسفك دمه أو قتله أو المساعدة في تهجيره من أرضه أو معاونة العدو عليه سرًا أو جهرًا، أو تشويهِ صُورَتِه وشَيطَنَتِه كَذِبًا وزورًا وافتراءً؟

أيها الأحبة الكرام، رمضان شهر التقوى يعني شهر تطهير القلب وتنظيفه من كل الأدران والأوساخ التي علقت به طوال العام الماضي، ورمضان شهر الصدق والإخلاص وهي أيضًا محلها القلب، وكم نحن بحاجة إلى ترميم قلوبنا في زمن تنصل الكثير عن مبادئهم وظهر النفاق بأبشع صوره، ووجد الرياء في الأعمال والأقوال.

ورمضان شهر التوبة والإنابة ولا يكون إلا إذا صدقت القلوب مع ربها، ورغبت في عفوه ومغفرته، فالله سبحانه وتعالى لا ينظر إلى الصور والأجساد بل ينظر إلى القلوب والأعمال، قال رسول الله ﷺ: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) (مسلم:2564) وقال تعالى: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا في قُلُوبِهِم﴾ فلما كان في قلوبهم الصدق ﴿فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ (الفتح: 18).

أسأل الله تعالى أن نكون قد خرجنا من رمضان بقلب عامرٍ بالإيمان والصدق والخير والإخلاص، وبقلبٍ نظيف سليم قد تخلَّص من كل ما يُغضب الله تعالى، وأن يُنزل علينا السكينة والأمن والأمان، وأن يُثيبنا فتحًا قريبًا..

أقول قولي هذا…..

الخطبة الثانية:

الحمد لله…

أيها الكرام؛ لقد ربط الله تعالى النجاة يوم القيامة بسلامة القلوب: ﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ (88) إلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ (الشعراء)، والقلب السليم هو القلب الذي سَلِمَ من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه، وَسَلِمَ من مخالفة هدي رسوله ﷺ، وسَلِمَ من كل الآفات والشبهات المُهلِكَة، وهو قلبٌ يخشى الله في السِّر والعلن، قلبٌ متعلق بكتاب الله وهديه وشرعه: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ (الأنفال:2).

قلب فيه رحمة على عباد الله، وخاصة المظلومين والمضطهدين، هيِّنٌ ليِّنٌ، ليس كقلوب اليهود ومن والاهم الذين قال الله عنهم: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً﴾ (المائدة:13).

قلبٌ لا يتشابه مع قلوب الكافرين والمجرمين والمنافقين الذين لا يرقبون في المؤمنين إلاً ولا ذمة: ﴿كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ، تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ (البقرة:118).. ﴿كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَىٰ قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ﴾ (8 التوبة).

قلبٌ بعيد عن الأهواء والزيغ، يأخذ كتابَ الله كُلَّه، ولا يختار ما يوافق هواه أو هوى حزبه أو جماعته: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ﴾ (آل عمران:7).

قلبٌ تَدَبَّر القرآن فَوَجَد فيه: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)﴾ (الأنعام)، فأصبح مُعَلّقًا بالحق والعدل، ليس كالرجال الآليين الذين أُغلقت قلوبهم، وأصيبت بالوهن الذي هو حُب الدنيا وكراهية الموت، فأصبح كلامُهُم موافق لهوى من يَعِدُوهُم بالمال، أو بمنصب، أو موافق لأهواء أولياء نعمتهم من اليهود أذنابهم: :{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} (سورة محمد).

قلبٌ استفاد من مدرسة رمضان، فصار كثير التوبة والإنابة إلى الله، قال تعالى: ﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَٰنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ﴾ (سورة ق).. وعندما سُئل النبي ﷺ أي الناس أفضل؟ قال: (كل مخموم القلب صدوق اللسان) قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: (هو التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي ولا غِل ولا حسد) (صحيح ابن ماجه:3416) .. يا لروعة هذه القلوب كيف جَعَلَت من أصحابها أفضل الخلق عند الله وعند رسوله بل وعند الناس جميعاً.

أيها الكرام؛ ادعوا الله تعالى أن نكون ممن خرج من رمضان بقلب سليم صادق، فيه الرحمة على العباد، وفيه الحق والعدل وحُب الخير للناس، حتى نستطيع النجاة من الفتن، فقد جاء في الحديث الصحيح: (تُعرَضُ الفِتَنُ على القُلوبِ عَرْضَ الحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فأيُّ قلبٍ أُشْرِبَها نُكِتَتْ فيه نُكتةٌ سَوداءُ، وأيُّ قلبٍ أنْكَرَها نُكِتَتْ فيه نُكتةٌ بيضاءُ، حتى يصِيرَ القلبُ أبيضَ مثلَ الصَّفا، لا تَضُرُّه فِتنةٌ ما دامَتِ السمواتُ والأرضُ، والآخَرُ أسودَ مُربَدًّا كالكُوزِ مُجَخِّيًا، لا يَعرِفُ مَعروفًا، ولا يُنكِرُ مُنكَرًا، إلا ما أُشْرِبَ من هَواه) (رواه مسلم).. فلا نجاة من الفتن إلا بقلب سليم نظيف..

اللهم يا مُثبت القلوب ثبت قلوبنا على دينك… اللهم يا مُصَرِّف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك..

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا… ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون… اللهم أنك قلت وقولك الحق: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ اللهم اهد أهل غزة إلى سُبل النصر، وسُبل الصبر، وسُبل التمكين، وسُبل الثبات، وسُبل الرضا بقدرك، وسُبل العزة، اللهم اهدهم سُبل الرزق، وسُبل الخير، وسُبل الغذاء، وسُبل العلاج، وسُبل الشفاء، وسُبل الدواء.

اللهم إنهم حُفاةٌ فاحمِلهم، اللهم إنهم عُراةٌ فاكسُهُم، اللهم إنهم جِياعٌ فأطعمهُم، اللهم إنهم مُصابون فشافهم.. اللهم إنهم مغلوبون فانتصر لهم.. اللهم إنهم مظلومون فانتقم لهم.. اللهم ثبت إخواننا المجاهدين في كل شبر من أرضك يا رب العالمين.

اللهم إنك قلت وقولك الحق: ﴿وَضُرِبَت عَلَيهِم الذِّلَّةُ وَالمَسكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ﴾ اللهم اشف صدور المؤمنين بِذُلِّ اليهود ومسكنتهم، وحقق فيهم قولك، إنهم قد طغوا وبغوا وعاثوا في الأرض فسادا.

اللهم أنزل غضبك ومقتك عليهم وعلى من والاهم وأيدهم، يا رب العالمين.