خطبة الابتلاء 10/2/2023م مستشفى أريحا

الابتلاء 10/2/2023م مستشفى أريحا

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.

 (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102].

أما بعد: فإن من سنن الله -عز وجل- في خلقه سُنة الابتلاء، وهي سنة التي لا تتبدل ولا تتخلف، وقد كَثُر الابتلاء في هذه الأيام بكل أنواعه، فمنا من يبتليه الله بفراق حبيبه، ومنا من يبتليه بزلزال يهز قلبه وماله وأهله.. ومنا من يبتليه بمرضٍ أو مُصابٍ جلل.

وما نسمع وما نُعايش وما نرى من ابتلاءات تُحيط بهذا الشعب اللمرابط المكلوم، وبهذه الأمة العظيمة الصابرة، يُدمي القلب ويُحزن الفؤاد، وتبكي الأعيُن منه كمدًا..

لكن كثيرًا ما ذكر الله الابتلاء في القرآن الكريم، وبيَّن أنه سبحانه خلق الخلق ليختبرهم، فقال سبحانه: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ) [الإنسان:2]، بل ذكر ربنا أنه ما خلق الموت والحياة إلا ابتلاءً لعباده، فقال -تعالى-: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)[الملك:2].

والابتلاء أيها الكرام اختبار لصدق إيمان العباد، ودليل على استقامتهم على شرع ربهم إن هم نجحوا في الاختبار، قال جل وعلا: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)[العنكبوت:2-3].

والابتلاء ليس مقصورًا على الأفراد؛ بل إن المجتمع كله في ابتلاء واختبار، ولذا لن تُقام دعوة ويُنشَر دين وتحيى أمة إلا بخوضها طريق الابتلاء؛ فالابتلاء هو الاختبار الحقيقي لصدق الإيمان، وهو محك الصبر والثبات، وهل يدخل العباد جنات ربهم ويفوزوا بالدرجات الرفيعة، وينالوا أعلى اللذات إلا بالصبر على الابتلاءات والمكروهات؟! ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة.

ولما كان الابتلاء لا ينفك عن العبد طالما كان حيًّا، فقد حدثنا القرآن عن حال المؤمنين فور دخولهم الجنة أنهم شكروا ربهم على انقضاء أزمان البلاء، وحلول النعيم والعافية، قال الله -تعالى-: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ)[فاطر:34].. لا كرب ولا حزن بعد اليوم.. هناك؛ ذَهَب الحزن.. ذهبَ الهم.. ذهبَ الخوف.. ذهب الغم.. لا فراق اليوم بين الأب وابنه.. لا ابتعاد للابن عن أمه.. هناك في الجنة يسكُن الشهداء في أعلى علاليها.. هناك في الجنة يتبوَّأ الشهداء أسمى درجاتها.. في الجنة يجتمع المحبون مع أحبابهم ويتآنسون، ويسمعون ربّ العزة يقول لهم: ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ﴾ (الأعراف:49).

وعندما بكت فاطمة -رضي الله عنها- على أبيها -صلى الله عليه وسلم- وهو يعاني من سكرات المرض وشدته، وتقول: واكرب أبتاه، فقال: “ليس على أبيك كرب بعد اليوم”(رواه البخاري)، وذلك لأنه سيودِّع دار المحن والابتلاءات إلى أحسن وأعظم جوار إلى الرفيق الأعلى.

وقد يسأل سائلٌ: لماذا يبتلينا الله -عز وجل-؟ وما يفعل بعذابنا وآلامنا وهو غني عنا؟

وهذا السؤال إنما يسأله من لا يعلم الحكمة من الابتلاء، فإن الابتلاء له حِكَم كثيرة، منها:

أولا: الابتلاء ينقِّي المسلمين من الدخلاء والأدعياء والمنافقين، قال -تعالى- أحكم الحاكمين: (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)[العنكبوت: 3]، فالابتلاء يُظهِر الصادق من الكاذب والمؤمن من المنافق، ولما نزل الابتلاء بأهل المدينة يوم الأحزاب ثبت المؤمنون مع النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، في حين قال المنافقون والذين في قلوبهم مرض: ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورًا.

ثانيا: الابتلاء فيه تنقية وتهذيب للقلوب والعقول والنفوس من التوكل على المخلوق ومن انتتظار الفرج من المخلوق، فيأتي الابتلاء فيعيد للنفس صوابها ورشدها وتعلم أنها قد تسلب ما هي فيه من نعم ومتع في أي لحظة، قال -تعالى-: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء:35].

ثالثا: معرفة عز الرب وقهره وعظمته وقوته، ومعرفة ذُل العبد وضعفه، كما قيل: هذا الزلزال لم يأتِ ليُريك قوته.. بل جاء ليُبيّن لك ضعفك أيها الإنسان.. فقبل سنتين: فيروس لا يُرى بالعين المجردة شلّ حركة العالم كله، وبان ضعف حتى الأمم التي تُسمي نفسها مُتحضرة.. وأذكر وتذكرون في 2010 ثارت سحابة دخان بركان في ايسلندا، شلت كل مطارات أوروبا لعدة أيام.. ليس حممًا بركانية.. بل سحابة دخان..

فإن كان الابتلاء بالموت يُذكّر الإنسان بنهايته الحتمية ويجعله يتعظ ويعتبر، فإن الابتلاء بالزلازل يُذكرنا بنهاية الحياة الكنيا كُلها، يُذكرنا بالزلزلة العظمى، حيث تثبّدَّل الأرض غير الأرض والسماوات.. ولا يبقى غلا وجه الله الذين سيرجع إليه العباد كلهم.

وهنا أيها الأحباب يتجلى كرم الله تعالى في اختيار واصطفاء الشهداء من بين ملايين الناس..

هنا تتجلى رحمة الله وعظمته في إنقاذ طفل يبلغ عشرين يومًا بعد 56 ساعه من الزلزال تحت الأنقاض.. كيف كان يرضع؟! كيف كان يتنفس؟! بل تم إنقاظ 12 طفلاً بعد 92 ساعة.. اللهم ارحمنا برحمتك..

أيها الأحبة الكرام، إذا كانت هذه بعض حِكَم الابتلاء، فإن للابتلاء كذلك فوائد جمة، ومنافع عظيمة، منها:

رفع الدرجات وتكفير السيئات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشكاها؛ إلا كفَّر الله بها من خطاياه”(متفق عليه). وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة”(متفق عليه).. فإذا كانت الشوكة كفيلة بمسح الخطايا كُلها، فما بالكم بألم فقد الأحباب.. أو الألم الذي يُسببه زلزال خلّف حتى الآن أكثر من 20 ألف قتيل؟

كما أن الابتلاء دليل على قوة الإيمان، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه…”(رواه البخاري) فبعض الناس قد يُبتلى بفقد ماله وولده فيصبر ويحتسب، وبعضهم يبتلي بفقد حذائه فيسخط ويجزع، والله أعلم بعباده فيبتلي كل واحد على قدر دينه وقوة إيمانه.

والابتلاء عنوان المحبة؛ فكثير من الناس يعتقد أن الابتلاء سخطٌ أو غضبٌ من الله -عز وجل- على عباده، ولو كان الأمر هكذا لما كان الأنبياء أشد الناس ابتلاء، فالابتلاء في الدنيا عنوان محبة الله -عز وجل- لعباده قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “إن عِظَم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله -تعالى- إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط”(صححه الألباني).

والابتلاء أيضًا طريق الجنة قال الله -عز وجل-: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ….)[البقرة:214].

أسأل الله تعالى لي ولكم العفو والعافية، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

*****

الخطبة الثانية: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:

عباد الله: لقد كان أشد الناس ابتلاء في هذه الأمة هو نبيها وقائدها رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، والمتأمل في كتب السيرة يجد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد تعرض هو وأصحابه لشتى صنوف الابتلاءات، فصبروا لها، وتحملوا في ذات الله شدائد، وابتلاءات كثيرة.

إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- منذ أن جهر بالدعوة إلى الإسلام، وصدع بكلمة الحق وهو يعاني من محن وابتلاءات نفسية ومعنوية وبدنية، لقد آذاه المشركون في نفسه، وعذَّبوا وقتلوا أصحابه أمامه.. بل إنه في فاجعة بئر معونة قُتل سبعون من علماء الصحابة وحفظة القرآن، على يد قبيلتي عضل والقارة..

ولما تحطمت محاولاتهم البائسة على صخرة إيمان الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وإصرارهم على مواصلة الدعوة، أوقدوا لهم نار التعذيب والاضطهاد والتنكيل بمنتهى الوحشية، حتى قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- واصفًا حاله مع الاضطهاد: “لقد أُخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أُوذيت في الله وما يؤذى أحد”.. أنسينا صخرة بلال، وعذاب عمار وآل ياسر؟ أنسينا إعدام خُبيب بن عدي وهو يقول: والله لا أحب أن أكون الآن بين أهلي ويُشاك رسول الله بشوكة؟

ونحن أيها الأحباب في أمس الحاجة لاقتفاء آثار هؤلاء العظماء والسير على دربهم للوصول إلى ما وصلوا إليه.

اللهم اغفر لنا ذنوبنا أجمعين، وارزقنا الثبات حتى الممات.

خطبة (سَنَسْتَدْرِجُهُم) كفر نعمة / 3-2-2023

خطبة (سَنَسْتَدْرِجُهُم) كفر نعمة / 3-2-2023

الحمدُ لله برحمته اهتدى المُهتدونَ، وبعدلِهِ وحكمَتِهِ ضلَّ الضَالونَ، وأشهدُ أن لا إِله إلا الله وحده لا شريك له لا يُسألُ عمَّا يفعلُ وهم يُسألونَ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليه، وعلى آله وأصحابِه وأتباعِه بإحسانٍ إلى يومِ يُبعثون.. ﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون﴾ أما بعد، أيها الأحبة الكرام..

قبل أيام قام سياسيٌّ سويديٌ حاقدٌ بحرق نسخة من القرآن الكريم على الملأ، ظانًّا أنه سينال من هذا الدين، ومن أتباعه، ولا شك أيها الكرام أن هذه التصرُّفات تُدمي وتُغضبُ القلبَ المؤمنَ، وتؤلِمُ وتُحزِنُ الفؤادَ النقي، وتُضَيّقُ الصدرَ الرحيبَ، وهذه المرة ليست الأولى التي تَدُل على حقدهم الأسود على الإسلام ونبي الإسلام وعلى المسلمين، ولن تكون الأخيرة، ففي يوم أمس الخميس منعت الشرطة النرويجية متطرفين أرادوا أن يحرقوا المصحف أمام الإعلام تحت تهديد من تركيا، ولولا خوفَهُم على مصالحهم لفعلوها وكرروها.

أما في زمن النبي ﷺ لم يَكُن هناك مصاحفَ ورقيةً ليُمزقوها أو يحرقوها، فكانوا يقولوا لبعضهم: ﴿لَا تَسْمَعُواْ لِهَٰذَا الْقُرْءَانِ وَالْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾ (فصلت:26)، فكان حبيبُنا ﷺ يحزنُ لذلكَ ويضيقُ صدرُه ألمًا، ولا يعلم ماذا يفعل، فَوَجَّهَهُ ربُّه تبارك وتعالى للتعامل مع مثل هذه الحالات، فقال له: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97)﴾ فالله تعالى أعلم أن المسلمين يحزنون ويتضايقون وتكاد قلوبهم تنخلعُ قلوبُهم وتتفطَّر من هذه الأعمال وهذا الحقد.. يا رب إنهم يهزأون بالدين وبالقرآن وبالنبي؟! لكن الله تعالى يُبشرنا ويُطمئن قلوبنا كما طمأن قلب حبيبه ﷺ ويقول: ﴿فَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ (يس:76).. إن أعمالَهم وأقوالَهم وأفعالَهم لا تخفى علينا.. نسمع ونرى حتى مؤامراتِهم ومؤتمراتِهم السريةِ والعلنيةِ.. كلِّها تحت رقابَتِنا..

إنهم يهزأون بالدينِ وبالقرآنِ وبالنبيِّ يا رب؟! فيُجيبنا ربُّنا: ﴿وَلَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا﴾ (آل عمران:176)، أي: لا تحزنوا!! فلن يتضرر الإسلام ولا الدين ولا النبي ولا القرآن من أقوالهم وأفعالهم هذه؛ لأن اللهَ حافظُ دينَه، وحامي شريعَتَه: ﴿إِنَّا نَحْنُ نـزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (الحِجر:9).

أيها الأحبة الكرام: الله تعالى يُعطي نبيه ﷺ والمسلمين من بعده تعليمات: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97)﴾ فناذا نفعل يا رب؟ ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)﴾ (الحِجر)، أرشده الله تعالى إلى رُباعية عظيمة، ذات تأثير كبير: التسبيح والتحميد والسجود والعبادة، والاستمرار على ذلك حتى آخر نفس في الحياة.

ماذا علينا أن نفعل؟ الإجابة الأولى: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (98)﴾ إذا أردتم أن تُغيظوهم؛ فعَظِّموا أيها المسلمون ربَّكم ودينَكم وكتابَكم نبيَّكم.. إذا أردتم أن تُغيظوهم فطبقوا أحكامَ دينِكُم وقُرآنَكم بينَكم.. عظموهم في قلوبكم وفي قلوب الناس.. عظّموا ربَّكم ودينَكم في عباداتكم.. عظّموا ربَّكم ودينَكم في أخلاقكم.. عظّموا ربَّكم ودينَكم في معاملاتكم.. (فسبح بحمد ربِّك) أي: اجتهد في تعظيمه وطاعته ونشر دينه.. فإنكم إن تخليتم عن هدي دينكم حققتُم لهم مآربهم وأمانيهم.

ماذا علينا أن نفعل؟ الإجابة الثانية: ﴿وَذَرْنِى وَالْمُكَذِّبِينَ أُوْلِى النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا﴾ (المزمل:11).. ﴿فَذَرْنِى وَمَن يُكَذِّبُ بِهَٰذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (القلم:44).. الله تعالى يقول: كِل أمرَهم إليِّ.. أنا سأتولى أمرهم.. ثم انظر وتفكر وتدبر ماذا سأفعل بهم..

فماذا ستفعل يا رب؟ الإجابة الثالثة: ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ (182)﴾ وهذا الاستدراج يكون لأمرين: إما أنه يستدرجهم ليُعذبهم في الدنيا قبل الآخرة، لهذا كانت الآية التالية: ﴿وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)﴾ (الأعراف).. ألم تروا كيف فعل الله بمن استهزأ بنوح عليه السلام؟ دَفَنَهُم تحت أمواج طوفان كالجبال.

ألم تروا كيف فعل الله بمن استهزأ بصالح عليه السلام؟ أهلكهم ﴿بِالطَّاغِيَةِ﴾..

ألم تروا كيف فعل الله بمن استهزأ بهود عليه السلام؟ ﴿فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (5) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ﴾ (سورة الحاقة)…

هذه أمثلة وعيّنات على عذاب الدنيا، أما الآخرة فعذابها له خمس ميزات عن عذاب الدنيا: ﴿وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ﴾ (القلم:33).. ﴿وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ﴿١٢٧﴾  (طه:١٢٧).. ﴿وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَىٰ﴾ (فصلت:16).. ﴿وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ﴾ (الرعد:34).

ويُلخص لنا القرآنُ حالهم في الدنيا والآخرة بقوله: ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ العَذَابِ الأَدنَىٰ دُونَ العَذَابِ الأَكبَرِ لَعَلَّهُم يَرجِعُونَ (21) وَمَن أَظلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِـَٔايَٰتِ رَبِّهِۦ ثُمَّ أَعرَضَ عَنهَآ إِنَّا مِنَ المُجرِمِينَ مُنتَقِمُونَ (22)﴾.

والنوع الثاني من الاستدراج؛ أن يكون هذا الاستدراج لمصلحة الدين، ففي صحيح البخاري يقول ﷺ: (إنَّ اللهَ ليُؤيِّدُ هذا الدِّينَ بالرجلِ الفاجرِ).. فكيف يؤيد الله هذا الدين بالرجل الفاجر؟ هذا ما سنعرفه بعد جِلسة الاستراحة.. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..

الخطبة الثانية: الحمد لله….

أيها الأحبة الكرام، يقول الله تعالى: ﴿فَذَرْنِى وَمَن يُكَذِّبُ بِهَٰذَا الْحَدِيثِ﴾ يعني: هذا القرآن، هذه الشريعة، هذا الدين، هذه الدعوة، ﴿فَذَرْنِى وَمَن يُكَذِّبُ بِهَٰذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (القلم:44)..

وهذا الاستدراج لاشك أنه لمصلحة الإسلام والمسلمين.. ويُؤيِّد به الدين، ويكون بأحدِ أمرين:

الأول: استخدامهم في نشر الدين، حيث تفتح تصرُّفاتهم هذه عيونًا كانت مُقفلة، وقلوبًا كانت غافلة عن الإسلام والقُرآن، فيُقبِلوا عليه، والأدلة التاريخية على هذا كثيرة، لكني أضرٍب مِثالاً حديثًا عاينه مُعظمنا، ففي عام 2010 قام قسيس اسمه (تيري جونز) وهو نكرة غير معروف، أراد أن يُشهر نفسه عن طريق إحراق المصحف، في ولاية فلوريدا، أتدرون ماذا حصل بعدها؟ بعد يومين من فعلته نفذت أكثر من 20 ألف نسخة من القرآن الكريم في الولاية، وخلال أشهر من الحادثة أسلم الآلاف..

وقد شاهدتُ قصة إسلام شخص لم يعرف عن الإسلام شيئًا، إلا بعد أن رأى استهزاءَ وسائلَ الإعلامِ في أمريكا بالإسلام، فتساءل في نفسه: ما هذا الإسلام الذي يتحدثون عنه؟ وعندما بحث في الإنترنت وتعرف، وافق عقله ودخل فيه..

أما النوع الثاني من الاستدراج، فهو بدخولهم الإسلام، فيكون إسلامُهم فتحًا جديدًا، وسببًا في خدمة دين الله، والأمثلة في التاريخ أيضًا كثيرة، فكم حارب خالد وعمرو بن العاص الإسلام مثلاً، وكم خدموه بعد أن منَّ الله عليهم بالهداية؟

وفي العصر الحديث: ابحثوا على جوجل عن اسم “أشوك كولن”، وتعرفوا على أمين عام الكنائس العالمي ومن أشهر محاربي الإسلام الذي أسلم عام 2002، فأسلم بإسلامه 21 ألف شخص من أتباعه..

أما “أنولد فان” الهولندي الذي أنتج فيلماً مُسيئًا للنبي ﷺ في 2008، فقد تعرف على الإسلام وأسلم سنة 2013م، وعرف خطأهُ، فانقلب مُدافعًا عن الإسلام والمسلمين بلسانه وأفلامه وأقلامه، وأسلم معه الكثير..

أما عضو البرلمان السويسري “دانيال شترايش” الذي كان وراء قرار منع بناء المآذن في سويسرا عام 2009، والذي دعا لإغلاق المساجد، وهيج مشاعر كل مسلمي الدنيا، فأعلن عن اعتناقه للدين الإسلامي الذي لم يكن يعرف عنه شيئًا، وبدأ بحملة لبناء المساجد والمآذن..

أما “يورام فان كلافيرن” الذي نظم مسابقة خصيصاً للرسوم المسيئة للإسلام وللنبي ﷺ، وهو “بنفسه” الذي قرر تأليف كتابٍ مسيءٍ للإسلام، وأثناء بحثه عرف الحق، فشرح الله صدره للإسلام، وتحول الكتاب بقدرة الهادي القدير إلى كتاب للدفاع عن الإسلام، وقال: إن كل معلوماتي عن الإسلام باختصار كانت خاطئة.

هذا أيها الكرام قليل من كثير، يُذكرُنا بقوله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِـُٔواْ نُورَ اللهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِۦ وَلَوْ كَرِهَ الْكَٰفِرُونَ (8)﴾ (الصَّف)، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)﴾ (الأنفال)..

اللهم أصلح أحوال المسلمين..

اللهم اهدِ الإنسان والجان وعَبَدة الأوثان.. اللهم يسر لنا خدمة دينِكَ.. اللهم هيئ لنا من أمرنا رشدا.. اللهم من أراد بدين الإسلام وأرض الإسلام وبالمسلمين خيرًا فوفقه لكل خير….