صور من ميلاد الحبيب ﷺ

صور من مولد الحبيب ﷺ 15-10-2021م

   الحمد لله رب العالمين، يا ربي لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا… أشهد أن لا إِله إلا الله العظيم… الذي أرسل إلينا نبيَّه محمدًا ﷺ، بالهدى ودين الحقّ ليُظهرَهُ على الدين كُلّه..

   وأشهد أن محمدًا ﷺ عبده ورسوله… القائل: (أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى عليهما السلام ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نورٌ أضاء لها قصور الشام) (الصحيحة 1545).

   أما بعدُ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)}.

أيها الأحبة الكرام: في يوم الاثنين التاسع أو الثاني عشر من ربيع الأول عام الفيل؛ كان الحدث الأعظم: ميلاد الحبيب ﷺ، وفي هذه الذكرى؛ يَخطبُ الخطباءُ، ويكتبُ الكُتّابُ، ويتكلّمُ المتكلمونَ، فاللسانُ يتشرّفُ بذكره، والقلبُ يطيبُ بِحُبّه، والعقلُ يسمو بفكرِه، والجوارح تزدان بالتأسي به ﷺ.

   وأنا هنا لا أُريدُ أن أسرُد الأحداث التاريخية، بل سألتقط صوراً للأجواء المُحيطة بمولده ﷺ بكاميرا الواقع.. بكاميرا الاعتبار والاتعاظ.. بكاميرا التدبر..

   أما صورتنا الأولى -أيها ألأحبة- فهي ليقينِ عبد المطلب جد الرسول ﷺ حيث كان يقينُه يُسيطر على أجواء حرب الفيل، وكان صدى كلماته الخالدة يملأ الآفاق (للبيت ربٌّ يَحميه)، ثم توجّه عبد المطلب إلى الكعبة وأمسك بِحلقة الباب، و دعا ربه قائلاً:

يا ربّ إنَّ العبدَ يَمنعُ رَحْلَهُ فامنع حِلالَك

لا يغلبَنَّ صليبهُم ومِحالُهُم يوماً مِحالَك

إن كُنتَ تاركَهُم وقِبلَتَنا فأمْرٌ ما بدا لك

   وعند هذا اليقين جاء النصر، ففرح الناس بهزيمة الغزاة… فرحوا بهزيمة أصحاب الفيل الذين جاءوا ليهدموا البيت المقَدّس، ذلكَ البيت المعظّمُ في قلوب العرب… وهذا دليلٌ أن ميلادَ الحبيبِ تأكيدٌ على أنّ كُلّ من يُحاول هدم البيت المقدّس… بيت الله المعَظّم، هناك في مكة وهُنا في القدس، سَيُهزمون، مهما استمرّت الحفريات لإسقاطه… ومهما تعددت الْمُحاولات لتدنيسه، نعم سَيُهزمون، فالله تعالى يقول: ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ هذا في الدنيا، أما في الآخرة: ﴿بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ﴾… فقد انحسر بمولده الظلم والطغيان، وأفل نجمُ الشرك والكفر، فلقد

سَعِدَتْ بمولدِ أحمدَ الأزمانُ***وتعطرت بعبيرِه الأكوانُ

والظُّلمُ أنذَرَ بالنهاية عندما***وُلِدَ البشيرُ وأشرقَ الإيمانُ

   أيها الكرام: أما الصورة الثانية التي ألتقطُها فهي لرجُلٍ يهوديّ، وهو يصعد أحد الحصون، ويصيح: يا معشر يهود… يا معشر يهود، فتجمّعوا إليه وقالوا: ويلك.. مالَكَ؟!! فقال: طلعَ اليومَ نجمُ أحمد الذي يولدُ به[1]. فقد خسر اليهود شرف النبوة، التي كانوا يتطلعون إليها، ويحلمون أنهم سَيُقاتلون العرب عندما يتّبعونَ هذا النبي… فكان ميلاده ﷺ  دليلاً على خَيبتِهِم وفشلهم خُسرانِهم ونِهايتِهِم وإجلاءهم من المدينة… حتى وإن بدا للناظر أن لهم نجاحاً هذه الأيام، فما هو إلا قُشور تُغطي الخيبة والفشل…

   و أما الصورة الثالثة، فأرى فيها تَوَحُّد العرب في مواجهة العُدوان، فقد أجمعوا وتعاهدوا على كلمة واحدة؛ هي مواجهة حملة أبرهة لهدم الكعبة.. بيتُ الله الذي يُمثل رمز التوحيد.. فَقَتَلَ جيشُ أبرهةَ منهم الكثير، وأَسَرَ قياداتهم، ورُغم أنهم كانوا على الشرك، فلم يكن على التوحيد منهم إلا القليل، فإن الله تعالى قد نَصرهم، وأيدهم بِجنودٍ من عنده.. طيرٌ أبابيلَ تِحملُ معها غَضَبَ الجبار على أولئك المعتدين الذينَ يُريدون هدم التوحيد.

   وكم هم أعداء الوحدة والتوحيد في هذه الأيام؟ إنهم كثير.. ولكن ميلاد الحبيب يُبشّر بفشل مُخططاتهم، ويُبشّر بالوحدة ضد العدوان، ويُبشّرُ بانتصار هذا الدين العظيم، فالله تعالى يقول: ﴿وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾…

الله أكبرُ إن ديــنَ مُحــمّدٍ***وكـتابه أقـوى وأقوم قيلاً

لا تذكروا الكُتب السوالف عنده**طلع الصباحُ فأطفئوا القنديلا

    أحبتي في الله: وفي صورةٍ أُخرى، أرى فيها “أبا رُغال”، ذلكَ الخائن؛ الذي خان دينه ووطنه ومُقدّساته، وخالف إجماع العرب على منعِ أبرهة من هدم الكعبة، نعم.. إنه أبو رغال العميل، الذي سَخّر نفسه لخدمة أعداء الله، وأعداء دينه، وقرر أن يخدمهم ويُدِلّهم على بيت الله الحرام… فماذا كان مصيرُه؟؟ كان مصيرُه أن مات في الطريق قبل أن يُحقق هدفه… دون أن يَبْلُغَ غايتَه أو ينالَ مُرادَه، فكان ميلاد الحبيب إنذاراً لهؤلاء الذين يعملون في (البواجر) ليهدموا بيوت المسلمين في القدس ويحفرون تحت المسجد الأقصى لهدمه.. إنذاراً لهؤلاء الذين يخدمون مصالح أعداء الدين، فيًرَوّجونَ لحملات تنصير المسلمين وتجهيلهم وتشويه دينهم وطمس أخلاقهم الْمُحَمّدية وتشجيع الفواحش بشتى الوسائل: بأقلامهم، وبأفلامهم، ومسلسلاتهم، وحفلاتهم ولباسهم الفاضح الذي يفضح ما في داخلهم من الحقد على الإسلام والمسلمين، هؤلاء مصيرهم كمصير أبي رُغال، سوف يموتون وينتهون قبل أن تتحقق آمالُهم ومُرادُهم، وليس هذا فقط مصيره فقط، بل إن العرب أجمعوا على رجم قبره غُدُوًّا وعشياً، فصارَ مثلاً للخيانة، حتى قال جرير يهجوا الفرزدق:

إذا مات الفرزدق فارجموه***كرجمكموا لقبرِ أبي رغالِ

ألم تسمعوا قول الله تعالى:﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ من هم يا رب؟ ﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلهِ جَمِيعًا﴾؟ ألم تسمعوا قول قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ * يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ   اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾.

أقولُ قولي هذا…

الخطبة الثانية:

    الحمد لله رب العالمين، يا ربّ… نشهدُ أنك حقّ، وأن قولكَ حقٌّ، وأن نبيك حق، أرسلته بالحق..

    أحبتي في الله: دعوني ألتقط لكم صورة للبيت الذي وُلِدَ فيه الحبيب ﷺ ، حيث الخيرُ ينتشِرُ هناك، من خلال الأسماء المُحيطة به ، فقد خرج من صُلبِ عبد الله، وهذا يعني أن أصلَه العبوديةُ لله، فلم يكن اسم أبيه مثل الأسماء الدارجة في ذلك الوقت، فلا عبد العزى ولا عبد مناة ولا عبد ودّ، بل عبد لله، وهذا دليلُ على أنه سَيُؤَسّس دولة التوحيد.

    أما أُمه آمنة، فهو الذي سينشر الأمن في رُبوع العالم، فدينه دينُ الأمن، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾، فلا أمن إلا بسيادة دين مُحمّد r، هذا في الدنيا، أما في الآخرة فالله تعالى يقول: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ﴾، كما أن أول قطرة حليبٍ دخلت جوف الحبيب من (ثويبة) وهذا يقولُ لنا: إن الذي يرتضع من سُنّة الحبيب وينتهج نهجه ويسير على دربه ويقتفي أثره؛ فإن له الثواب والأجر والمثوبة من الله تعالى القائل: ﴿فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ   يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، والقائل: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ﴾، والقائل: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ﴾.

   كما أن حاضنته اسمها (بَرَكَة) ومُرضعته (حليمة السعدية)  فالبركة والسعادة سَتَحُلان على الديار، بل على الكون كُلِّه بميلاد الحبيب ﷺ..

روحي بِحُبّكَ في الضياء تهيمُ***والشوقُ منّي في هواكَ عظيمُ

والكَونُ مسرورٌ بذكرِ مُحَمّدٍ***في ذكـره نـورٌ وفـيـهِ نـعـيمُ

   أحبتي في الله، وصورةٌ أخرى أرى فيها أبا لهب، عندما بَشّرتهُ جاريتُه بمولد ابن أخيه، سُرّ كثيراً حتى أنه أعتق جاريتَه التي بشرته فرحاً، لكن الله الذي من صفاته العدل، ومن أسماءه العدل جلّ جلاله لن يُضيع هذا العمل لأبي لهب، فهو في النار لأنه كفر بما جاء به مُحمّد ﷺ، لكن الله تعالى يُخفف عنه العذاب في كُلّ يوم اثنين، لأنه فرح بمولد الحبيب، حتى قال قائلهم:

إذا كان هذا كافرٌ جاء ذَمُّه ***وتبّت يداهُ وفي الحميمِ مُخّلّداً

إلا أنه في يوم الاثنين دائماً ***يُخَفَّفُ عنه بالسرور بأحمدا

فما الظنُّ بالعبد كان عُمرهُ***بأحمدَ مسروراً وماتَ مُوَحِّدا

فيا بُشرى لكم، يا من تُحبون مُحمداً وتَسيرونَ على نَهجه، فإذا كان هذا أبو لهب، وأنتم تعلمون من هو أبو لهب يُخففُ عنه العذابَ كل يوم اثنين لأنه سُرَّ بمولد الحبيب فكيف بمن لا ينقطع قلبُه عن حُبه، ولسانه عن الصلاة عليه، ونفسه عن الشوق لرؤيته؟! إنها البُشرى.. إنها الفرحة.. إنها البركات.. إنه مولدُ الهادي إلى طريقِ الحقّ…

   أحبتي في الله: أكتفي بهذا القدر من الصور، فإن ألبوم العبر والعظات من ميلاد الحبيب لا ينتهي، فيكفي أن ميلادَه كان نوراً أضاء الطريقَ لأمة كانت تتيه في الظلمات فأبصرت وَحَسُنَت أَخلاقُها وصارت شامة بين الأمم…

صلوا على من تدخُلونَ بِهديه *** دار السلامِ وتَبْلُغونَ المطلبا

صلوا عليهِ وسَلّموا وتَرَحّموا *** تَرِدوا بها حوض الكرامةِ مَشرباً

   اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

   اللهم ارزقنا حُبَّكَ وحُبَّ نبيّك ﷺ، اللهم اجمعنا وجميع السامعين معه في الفردوس الأعلى، اللهم ارزقنا شفاعته يا رب العالمين، اللهم يا مُثبّت القلوب ثبّت قلوبنا على دينك وعلى سُنّة نبيك ﷺ…


[1] صحيح السيرة النبوية، محمد ناصر الدين الألباني ص 10.