خطبة (أيام الصبر) 23-2-2024

خطبة (أيام الصبر) 23-2-2024

الحمد لله الذي أعدَّ لأهل البلاء من الأجور ما يحسدهم عليه أهل العافية، وَوَعَدَ أهلَ الصبرِ أن يُدخلهم الجنة بغير حساب.. أشهد أن لا إِله إلا هو، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، القائل: (إِنَّ عِظَمَ الجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ)[1].

أيها الكرام، أوصيكم ونفسي بتقوى الله العظيم، فهي وصية الله لكل البشر: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ﴾ (النساء:131)..

أما بعد أيها الأحبة الكرام، فقد نظر الله تعالى إلى قلوب أهل الأرض فوجد قلب محمدٍ ﷺ أصفى وأنقى وأتقى قلبٍ، فاصطفاه للنبوة والرسالة، ثم نظر إلى قلوب أهل الأرض واصطفى أصفى وأنقى وأتقى القلوب لِصُحبته، يُقاتلون ويُدافعون عن دينه[2]، لهذا قال ﷺ عن الصحابة: (لو أنَّ أحدَكم أَنْفَقَ مثل أُحُد، ذهَبًا ما بَلَغَ مُدَّ أحدهم، ولا نَصِيفَه)[3]، فلا يُمكن لأحد ممن بعدهم أن يصل إلى مرتبة أو مكانة أو درجة الصحابة عند الله.

لكن؛ جاء في الحديث الحسن قال ﷺ مخاطبًا الصحابة الكرام: (إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا) يعني سيأتي بعدكم زمانٌ، أو ستأتي بعدكم أيامٌ، (إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا؛ الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ). وفي رواية: “قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ ؟! قَالَ: (بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ)..

فإن من الناس -أيها المؤمنون- من يبتليهم الله تعالى في دينهم وأرضهم ووطنهم وأعراضهم وأموالهم كما ابتُلي الصحابة في دينهم ووطنهم وعِرضهم وأموالهم، ليتحصّل على أجر  كأجر الصحابة، بل يُضاعف لهم لخمسين ضعفًا من الأجر، وقد بين النبي ﷺ السبب عندما سُئِل: كيف ذلك؟ فقال: (لأنكم تجدون على الخير أعواناً، ولا يجدون على الخير أعواناً)[4].

ففي زمن الصحابة، كان النبي ﷺ  بين ظهرانيهم، ورأوا الملائكة تُقاتل معهم رأي العين، ورأوا المعجزات النبوية رأي العين، لكن؛ في آخر الزمان يُعاني أهل الإيمان وأهل الصلاح وأهل الخير وأهل الدفاع عن دين الإسلام وأرض الإسلام وعن شرف المسلمين من قلَّة الأنصار والأعوان، وكثرة المهالك والشُّبُهات، وكثرة الدُّعاة إلى الضَّلالة، لهذا كان الصابر في آخر الزمان له أجر خمسين من الصحابة.

وهانحن نرى في فلسطين وفي غزة خاصة عَيِّنةً من هؤلاء العظماء، الذين يُدافعون عن دين الإسلام وأرض الإسلام وشرف المسلمين وقِبلة المسلمين الأوى، أمام أكثر الناس إجرامًا، وأكثر المخلوقات ظُلمًا، كيف لا وقد وصف الله تعالى اليهود بقوله: { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} ليس ذلك فحسب، بل إن الحجارة القاسية يُمكن أن يكون منها خير، أما هم فلا، لهذا قال ربُّنا بعدها: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (البقرة:74).

نرى في هذا الشعب المظلوم المضطهد المحاصر المكلوم الرضا على حقيقته، واليقين على حقيقته، والإيمان على حقيقته، نرى فيهم ذلك اليقين كالذي كان يجعل الصحابي يقول إذا قُتِلَ: فُزتُ ورب الكعبة.. اليقين الذي جعل أنس بن النضر ا يقول: (والذي نفسي بيده إني لأجد ريح الجنةِ دون أُحُد).

نرى في أهل غزة الرضا الذي جعل امرأة فرعون تصبر على أذى زوجها المجرم قاتل الأطفال، وهي تقول: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} (التحريم:11).. الرضا الذي جعل المصائب تهون عند الصحابة فتطيب قلوبُهُم، وتطمئنُّ نفوسُهم، كإيمان السُّميراء بنت قيس رضي الله عنها التي أخبروها باستشهاد زوجِها وأخيها وأبيها مع رسول الله ﷺ في أُحد، فلم تزل تقول: ما فَعَلَ رسولُ الله؟ قالوا: هو بحمد الله كما تحبين، قالت: أروني أنظر إليه، فلما رأته قالت: كل مصيبة بعدك جَلل، يعني بسيطة .

في غزة رأينا ونرى إيمانًا كالذي جعل خُبيب بن عدي رضي الله عنه يقول وهو يموت: “والله ما أُحِبّ أني بين أهلي ومحمد ﷺ تشوكه شوكة”.. إيمان كالذي جعل أصحاب الأخدود يُلقُون بأنفسهم في النار حفاظًا على دينهم، فجعلها الله لهم جنة، بل اعتبر دخولهم فيها فوزًا كبيرًا، فقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ﴾ (البروج: 11).

نرى هناك في غزة تَحَقُّق نبوءة رسول الله ﷺ: (لا تَزالُ طائِفَةٌ مِن أُمَّتي ظاهِرِينَ علَى الحَقِّ، لا يَضُرُّهُمْ مَن خَذَلَهُمْ، حتَّى يَأْتِيَ أمْرُ اللهِ وهُمْ كَذلكَ)[5].. ألم تُلاحظوا أنه ﷺ قال: (لا يَضُرُّهُمْ مَن خَذَلَهُمْ) ولم يَقُل من قاتَلَهُم؟ ولم يَقُل من عاداهم؟ ولم يقُل من قَصَفَهُم؟ فالعدو لا يُرجى منه خير على أية حال.. لكن أهم صفة عند هذه الطائفة أن أبناء جلدتهم يخذلونهم.. من يُرتجى منهم النفع يخذلونهم.. من يدينون بنفس الدين يجوعونهم.. من يعتقدون نفس العقيدة يتفرجون عليهم وهم يموتون جوعُا وعطشًا.. من يُصلون نفس الصلاة وإلى نفس القِبلة يتمنون إبادتهم، بل ويُشاركون في ذلك بكل وسيلة ممكنة..

نسيَ هؤلاء قول الذي لا ينطق عن الهوى: (ليس بمؤمنٍ من بات شبعان وجارُه إلى جنبِه جائعٌ وهو يعلمُ) (صحيح الجامع: 5505)، نسوا سُنة الله في الدنيا (كما تدين تُدان).. نسوا أن (من رضي بجوع جاره أمسى الفقر في داره)، وسيرون هذا عاجلاً أم آجلاً، فالله تعالى يُمهل ولا يُهمل، ولا ينسى، وإنما يَعدّ لهم عدًا، وقد جعل لمهلكهم موعدًا.

وليتذكر هؤلاء المنتسبين إلى الإسلام وإلى العروبة أن سكوتهم هذا ما هو إلا حرمان لهم من شرف الجهاد في سبيل الله، وشرف خلف المجاهدين في سبيل الله، فقد حرمهم الله هذا الشرف ولو بكلمة واحدة يقولونها، ولو علم الله فيهم خيرًا لأنطقهم.

أيها الأحبة الكرام: تتميز هذه الطائفة أيضًا بعدة صفات جاءت في الحديث، أول صفة: أنهم: (مِن أُمَّتي) يعني أمة مُسلمة موحدة تسير على ما جاء به النبي ﷺ، ويكفيهم هذه الشهادة النبوية الرفيعة الكريمة.

أما صفتهم الثانية، فهم: (علَى الحَقِّ) يعني على التوحيد الصحيح، والسُّنة المطهرة، والعدل والصدق والأخلاق الرفيعة، لأن كلمة (الحق) تشمل كل هذا، شاء أصحاب الغترات المطويَّة، وربطات العنق المكويَّة، والعباءات المُقَصَّبة أم أبوا.

والصفة الثالثة لهم -كما جاء في الحديث- أنهم (ظاهِرِينَ) يعني مُنتصرين غالبين، نصرهم واضح بيّن ظاهر، وإن أظهر الإعلام الأصفر غير ذلك.. وإن تداولت وسائل التواصل غير ذلك.. وإن تناقل العلمانيون وأعداء الدين غير ذلك، فهم (ظاهرون) وسيبقون ظاهرين، حتى يأتي وعد الله، أو أمر الله، وفي رواية: (حتى تقوم الساعة)، وفي رواية: (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق، ظاهرين على من ناوأهم، حتى يقاتل آخـرهم المسيح الدجال، وهم على ذلك).

ومن قوله ﷺ: (لا تَزالُ طائِفَةٌ) نعلم علم اليقين أن النصر حليفهم، مهما اشتدت الشِّدة، ومعها عَظُمت الكُربة، ومهما امتد الابتلاء وطال، وزاد القتل والتشريد والتدمير، فإن المؤمن ينظر إليه -كما ينظر أهل غزة- بعين الرضا واليقين والإيمان..

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..

الخطبة الثانية

الحمد لله… أما بعد أيها الأحبة الكرام..

نحن في زمن الغربلة، نعم إنه كذلك، ذلك الزمن الذي وصفه النبي ﷺ فقال فيما صح عنه: (يوشِكُ أنْ يأتِيَ زمانٌ يغَرْبَلُ فيه الناسُ غرْبَلَةً، وتَبْقَى حُثَالَةٌ مِنَ الناسِ، قدْ مَرَجَتْ عهودُهُمْ، وأماناتُهم، واختلَفُوا فكانُوا هكَذَا) وشبَّكَ بينَ أصابِعِهِ.. قالوا: كيفَ بنَا يا رسولَ اللهِ؟ يعني: كيف ستكون أحوالنا في ذلك الزمان؟ قال: (تأخذونَ ما تعرِفونَ، وتَدَعونَ ما تُنْكِرونَ، وتُقْبِلونَ على أمرِ خاصَّتِكُمْ، وتذَرونَ أمْرَ عامّتِكُمْ)[6].. في هذا الزمان أيها الأحبة يجب أن يحرص أحدنا أن لا يكون من أعوانِ الظَّلَمَةِ، وليكن شعارك دائما: {رَبِّ بِمَا أَنعَمتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجرِمِينَ}؛ لأن من أحب قومًا أو ظاهرهم فهو منهم.. وسيعاقَبُ معهم.. وسيحشرُ معهم.. هذا قولُ اللهِ تعالى وهو أصدق القائلين: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ}.. أزواجهم: أي: أمثالهم ومن تشبه بهم.. ومن أيدهم وناصرهم..  ومن روّج لأكاذيبهم في إعلامه.

وفي صحيح مسلم: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء)، قالوا: ومن الغرباء يا رسول الله؟! قال: (قوم صالحون في قوم سوء كثير) أرأيتم أسوأ ممن يرى أخاه يموت جوعًا وهو يُمارس هواية الكذب في إعلامه لتجميل صورة قتلة الأطفال الباهتة وشيطنة أهل الحق؟ أرأيتم أسوأ ممن يرى المسلمين يموتون ويتعامى عن ذلك بمسابقة ملك جمال الديكة؟ لهذا عرَّف النبي الغرباء في رواية أخرى: (الذين يَصْلُحُون إذا فسد الناس)، وفي رواية: (الذين يُصْلِحُون ما أفسد الناس من سنتي).

فمعقـلُ الظـلمِ –أيًّـا كـان صاحبُهُ-

*** لابـدﱠ يـوماً عـلى أهــلـيِـه يـنـهـدمُ!

فـقُـلْ لكلﱢ عُتاةِ الأرضِ: مَن غَشَموا

*** ومَن طغَوا قبلَكم في الأرضِ، أينَ همو؟

ألم تزَلزَلْ صُـروحُ البَــغيِ أجــمـعُـها

*** بـهـم كـمــا زُلـزِلَـتْ زِلـزالَـهـا إرَم؟

اللهم انشر رحمتك على أهل غزة .. اللهم الطف بهم.. وصب عليهم الصبر والثبات صبا.. اللهم انصرهم بنصر من عندك تُبَدِّل به خوفَهم أمنا.. وحزنَهم فرحا.. وهمَّهم فَرَجا.. وضيقَهم سَعَة.. وضعفَهم قوة.. وهوانَهم عزا.. يا عزيز يا قدير..

اللهم كن لهم عونا.. وارحم ضعفهم.. واجبر كسرهم.. وتول أمرهم.. وسدد رميهم.. واجعل نيران عدوهم عليهم بردا وسلاما..

اللهم إنهم حُفاةٌ فاحمِلْهم وعُراةٌ فاكْسُهُم وجِياعٌ فأَطعمهُم.. وخائفون فأمنهم.. ومغلوبون فانتصر لهم..

اللهم إنّا نعوذ بكَ من هذا العجز ونحن نرى إخواننا ولا نستطيع صرفًا ولا دفعًا، اللهم يا من لا تضيعُ عنده الودائع فاحفظهم بحفظك ورعايتك.. اللهم احفظ أرواحهم وأبناءهم وردهم إلى ديارهم مردًا كريمًا آمنًا..

اللهم انتقم من اليهود المعتدين المجرمين قتلة الأطفال، اللهم اقذف الرعب في قلوبهم، وردّ كيدهم في نحورهم، اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم ..  اللهم بك أصول وبك أجول ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

اللهم ارحم آباءنا وأمهاتنا كما ربونا صغارا…


[1] رواه الترمذي (2396) ، وابن ماجه (4031)

[2] صح عن ابن مسعود رضي الله عنه نحوه، كما في مسند أحمد 3600.

[3] أخرجه مسلم 2541.

[4] أخرجه الأربعة إلا النسائي، وابن حبان وغيرهم، انظر: “السلسلة الصحيحة” (494).

[5] صحيح مسلم 1920.

[6] أخرجه أبو داود (4342) وغيره، والبخاري معلقاً بصيغة الجزم (480) باختلاف يسير.