الموت ريحانة المؤمن* كفر نعمة* 23-12-2022
الحمد لله المنفرد بالبقاء، وكتب على كل مخلوقاته الفناء، وجعل الجنة عُقبى الأتقياء، وأعَدّ النارَ لمن أَساء..
أشهد أن لا إِله إلا الله، الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأزواجه الأخيار، أهل المدح والثناء.
{ يَا أيُّها الذِينَ آمنُوا اتّقوا الله حقَّ تُقاتِهِ ولا تموتُنّ إلا وأَنتُم مسْلِمُونَ } أما بعد : فإن الله قَدَّرَ الموت على جميع العباد: الإنس والجان وحتى الحيوان، فلا مفر لأحد من الموت مهما طال العمر، ويستوي عند الموت الصغيرُ والكبيرُ والذكَرُ والأنثى والغنيُ والفقيرُ والحاكمُ والمحكومُ والظالمُ والمظلومُ: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ}.
أيها الأحبة الكرام، إن فقد الأحبة خطب مؤلم، وحدث موجع، والفُرقةُ نارٌ تستعر في القلوب..
ففي كل يوم لنا ميتٌ نشيعه *** نرى بمصرعه آثار موتانا
لكن دين الإسلام العظيم قد وضع الدواء على الجرح، وضَمَّد القَرح، ووصف الترياق الذي يُخفف من آلام من أصابتهم مُصيبة الموت، ويُثَبّت قُلوبهم، ويربط عليها كما ربط على قلب أيوب ﷺ حين فقد أولادَهُ كُلَّهم.. وكما ربط على قلب محمد ﷺ حين دفن عمه وزوجته وأطفاله…
أيها الأحبَّة: إن أول دواء وضعه الإسلام للمبتَلينَ هو: الإيمان بالقدر خيرِهِ وشرِّه، فكيف يحزن من آمنَ بأن كُل شيء بأمر الله، وأنَّ ما أصابه لم يكن ليُخطئه؟ كيف يحزن من يتلو: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} وفي قراءَة: (ومن يُؤمن بالله يهدأ قلبُه) {وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم} (التغابن:11).
أما الدواء الثاني الذي وصفته صيدلية الإسلام للمصابين والمُبتلين: هو اليقين على الأجر العظيم للصابرين، فكيف يحزن وييأس من رَدَّدَ بلسانه وقلبه: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}؟ كيف يحزن مَن وُعِدَ بمعية الله: {إنّ اللهَ مَعَ الصَّابِرينَ} (البقرة: 153)، ومن وُعِدَ بمحبته: {وَاللهُ يُحِبُّ الصّابِرِينَ} (آل عمران: 146)، وقد أخبر الله سبحانه وتعالى أن الصبر خير من الجزع، فقال: {وَلَئِن صَبَرتُم لَهُوَ خَيرٌ لِلصَّابِريِنَ} (النحل: 126).
أما الدواء الثالث فهو: اليقين على أن هذا المُصاب لن يدوم، بل سيُعوضه الله خيرًا منه، فكيف يحزن من يُردد عند مُصيبته: اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها، فالرسول ﷺ يَعِدُهُ ويقول: (إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيراً منها)، فهل نثق بوعد الله ووعد رسول الله؟ وفي قصة أُم سلمة رضي الله عنها أكبر مثال..
أما الدواء الرابع: فهو المغفرة العظيمة وتكفير الذنوب مع كُل مُصيبة، صغيرة كانت أم كبيرة، فالذي يعلم أن ألمه وهمه غمه ووصبه وحزنه والأذى الذي يلحق به مهما صَغُرَ (حتى الشوكة يُشاكها) تكفير لذنوبه التي عملها حتى يلقى الله وما عليه خطيئة، فيصدق عليه قولُ الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} أنى له الحزن والألم والشكوى؟ وفي الحديث: (ما أُعطي أحدٌ عطاءً خير وأوسع من الصبر).
أما العلاج الخامس، صلاة الله على المبتلى بأن يرحمه ويشمله بهدايته: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} (البقرة)
وقد فهم السلف -رضي الله عنهم وأرضاهم- ذلك حقَّ الفهم فهذا عبد الله بن مطرف رحمه الله يوم مات ولدُه، قال: والله لو أن الدنيا وما فيها لي، فأخذها الله عز وجل مني، ثم وعدني عليها شربة من ماء لرأيتها لتلك الشربة أهلاً؛ فكيف بالصلاة والرحمة والهدى؟
والعلاج السادس أيها الأكارم، هو الوعد بالجنة، لمن صبر واحتسب أجر مُصيبته عند الله، فإن الله جل وعلا يقول لملائكته: (ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسمّوه بيت الحمد).
يا لها من بشارة؛ لأن الله تعالى إذا أمر ببناء بيت لأحد من عبيده لابد لذلك العبد أن يسكُن هذا البيت في يومٍ من الأيام، يقول الله عز وجل لهم: {سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} (الرعد: 24).
يا له من جزاءٍ.. يا لها من نعمة.. يا له من فضل إله عظيم.. فعندك اللهم نحتسب أصفياءنا وأصدقاءنا وأحبابنا وآباءنا وأمهاتنا وأنت حسبنا ونعم الوكيل وإنا لله وإنا إليه راجعون.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..
الخطبة الثانية: الحمد لله…
أما بعد أيها الأحبة الكرام، أما سابع هذه الأدوية من صيدلية الإسلام لكل مُبتلى، وخاصة من فقد أحبابه، فهو دواء نفسي لمن فقد حبيبًا أو عزيزًا وهو يعلم أنه مات على الإيمان وعلى الدين وعلى الصلاح، فهذا الميت قد وعده رسول الله ﷺ بأنه سيستريح بعد موته، فقد مرَّت جنازةٌ به فقال ﷺ: فقالَ: (مستريحٌ ومستراحٌ منْهُ) فقالوا: ما المستريحُ وما المستراحُ منْهُ ؟ قالَ : (العبدُ المؤمنُ يستريحُ من نصَبِ الدُّنيا وأذاها والعبدُ الفاجرُ يستريحُ منْهُ العبادُ والبلادُ والشَّجرُ والدَّوابُّ) (صحيح النسائي)، فلا نصب ولا هَمَّ هُناك.. لا عناء ولا تعب هُناك.. لا دُيون ولا غم ولا نَصَبَ ولا مرض ولا هِرَم ولا ابتلاء هناك.. فمن علم أن فقيدَه مُستريحٌ آمن مُطمئن فرح فكيف يحزن أو يتضايق؟
أما العلاج الثامن فهو لمن مات حبيبه أو ابنه أو قريبه شهيدًا.. وما أدراكم ما الشهداء.. كيف يحزن من يتلوا قوله تعالى: {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} (الحديد:19).
كيف يحزن من يسمع الحبيب ﷺ وهو يقول: (جعل الله أرواحهم في جوف طير خضر ترد أنهار الجنة، تأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم، قالوا: من يبلغ إخواننا عنا أنا أحياء في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عند الحرب؟ فقال الله سبحانه: أنا أبلغهم عنكم) فأنزل الله : (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله) إلى آخر الآية.
من يحزن أو يتضايق وهو يعلم أن الشهيد يتمنى أن يرجع إلى الدنيا.. لا ليجلس معهم ولا ليتمتع بماله ولا نسائه ولا جاهه.. بل ليموت مرة أخرى شهيدًا، يقول النبي ﷺ : (يؤتى بالرجل من أهل الجنة يوم القيامة فيقول الله عز وجل: يا ابن آدم كيف وجدت منزلك؟ فيقول: يا رب خير منزل فيقول: سل وتمنه، فيقول: ما أسأل وأتمنى إلا أن تردني إلى الدنيا فأقتل في سبيلك عشر مرات لما يرى من فضل الشهادة).
ولست أبالي حين أقتل مسلماً
*** على أي جنبٍ كان في الله مصرعي
نسأل الله تعالى أن يرحم موتانا، وأن يتقبل شهداءنا، اللهُمَّ إنَّهم في ذمَّتِك وحبلِ جوارِك، فأعِذهم مِن فتنةِ القبرِ، وعذابِ النَّارِ، أنتَ أهلُ الوفاءِ والحقِّ، اللَّهمَّ فاغفِرْ لهم وارحَمْهم، يا غفور يا رحيم.. اللهم صبِّر أهلهم وذويهم، اللهم ثبتهم واربط على قلوبهم، واجعلهم من الصابرين الذين يدخلون الجنة بغير حساب..
اللهم اسقنا الغيث…. اللهم غيثُا مغيثًا سحًا غدقا..
اللهم أصلح أحوال المسلمين.. اللهم ارحم ضعفهم….