Monthly Archives: مارس 2020
موجة الحر
موجة الحر.. الحمد لله..
أيها الأحبة: لقد مرَّت بلادنا بموجة حرّ شديدة، وما زالت مستمرة، حرٌ شديدٌ عانى منه الناس معاناة شديدة، خاصة في بعض بلادنا التي تعاني من الحصار وانقطاع الكهرباء، نسأل الله أن يكتب لهم أجر الصابرين الذين يوفون أجورهم بغير حساب..
فنحن نعيش في هذه الأيام مع موعظة لمن أراد أن يتعظ أو يعتبر، ألا وهي موعظة الصيف والحرّ الشديد، ولابد من التذكير بها، والذكرى تنفع المؤمنين: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ق: 37]، فإن شد حر الصيف -أيها الأحبة- الذي نعيشه يذكرنا بموقفين عظيمين:
الموقف الأول: يذكرنا بِحَرِّ موقف الحشر يوم القيامة: يوم القيامة.. ذلك اليوم العظيم الذي مقداره خمسين ألف سنة، اسمعوا إلى حبيبنا ﷺ وهو يَقُولُ: “تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْخَلْقِ حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ”، قال أحد الرواة: فَوَاللهِ مَا أَدْرِي مَا يَعْنِي بِالْمِيلِ أَمَسَافَةَ الْأَرْضِ أَمْ الْمِيلَ الَّذِي تُكْتَحَلُ بِهِ الْعَيْنُ، قَالَ: ” تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْخَلْقِ حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ، فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ – أي خاصرتيه -، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا “، قَالَ: وَأَشَارَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ.
والميل عباد الله لو كان بمسافة الأرض فإنه يقدر بـ1700 متراً، أما الميل الذي تكتحل فيه العين فهو الحديدة التي توضع في المكحلة وهي [أقل من إصبع]، وعلى كلا الحالين فإن المسافة قريبة جداً، فالشمس تبعد عنا اليوم ما يقرب من [150 مليون كم]، وعلماء الفلك يقولون: لو أن الشمس اقتربت بمقدار يسير لاحترق كل ما على الأرض، ولو ارتفعت قليلاً لتجمد كل ما على الأرض، فسبحان الله العظيم.
وفي يوم القيامة عندما تقترب الشمس من رؤوس الخلائق لا يموتون بأمر الله تعالى، وإنما يكون العرق منهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حَقْوَيْهِ – أي خاصرتيه -، ومنهم من يُلجمه العرق إلجاماً، أي: يصل عرقهم إلى الفم وحدود الأذنين، نسأل الله العافية.
وكما نحن اليوم يبحث كل منا عن منطقة مكيفة، أو منطقة باردة يُخفف بها أثر حر الصيف عن نفسه، فإنه وفي أثناء موقف الحشر العصيب يبحث بعض الناس عن مكان ظليل يحتمون فيه، وقد أخبرنا حبيبنا ﷺ عن بعض أصناف الناس الذين يُسمح لهم بدخول المكان الظليل، وأي مكان.. إنه ظل عرش الرحمن، في يوم لا ظل إلا ظله.
أصناف تكون في ظل ظليل يوم أن تدنو الشمس من رؤوس الخلائق، قال حبيبنا ﷺ: “سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ: الإِمَامُ الْعَادِلُ – ويشمل الحاكم والسلطان والوزير والقاضي والمدير وكل من ولي من أمر المسلمين شيئاً فعدل -، وَشَابٌّ نَشَأ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ “.
ومن الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، من أَنْظَرَ مدينه المعسر الذي لا يستطيع السداد أو أسقط الدين من ذمته، قال حبيبنا: “مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ عَنْهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ”..
أظلنا الله وإياكم في ظله يوم لا ظل إلا ظله. أقول قولي هذا.
الخطبة الثانية: الحمد لله..أيها الأحبة.. الموقف الثاني الذي يُذكرنا به شدة حر الصيف، هو شدة حر نار جهنم: إن سبب هذه الحرارة الظاهر أيها الأحبة الكرام هو الشمس المحرقة، لكن السبب الشرعي لشدة حر الصيف الذي نلقاه، هو من نَفَس جهنم والعياذ بالله، أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قَالَ حبيبنا ﷺ: ” اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا، فَقَالَتْ: رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ”..
إذا كانت شدة الحر في الصيف من نفس جهنم، فكيف يكون لهيبها وعذابها، وكيف يكون حال من كانت النار مسكنه ومقامه ومستقره، والعياذ بالله.
رغم ما نجد من شدة الحر في دنيانا، علينا أن نتذكر أن نار جهنم والعياذ بالله هي أشد حراً، قال تعالى: ﴿وَقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ﴾ [سورة التوبة:81]، بين الله تعالى لنا في هذه الآية كيف كان المنافقون في غزوة تبوك يُحاولون تثبيط المؤمنين عن الخروج للجهاد، ويقول لهم: ” لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ”، فقال الله لنبيه محمد صلى الله علية وسلم: قل لهم، يا محمد أن نار جهنم أشد حرًّا من هذا الحرّ الذي ترونه أو تحسونه أو تشعرون به.
إن نار جهنم والعياذ بالله ليس كنار الدنيا، قَالَ حبيبنا ﷺ: “نَارُكُمْ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله علية وسلم، إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً، قَالَ: فُضِّلَتْ عَلَيْهِنَّ بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا، كُلُّهُنَّ مِثْلُ حَرِّهَا”.
ونحن في شدة الحر أيها الكرام عن ماذا نبحث؟، نبحث عن الهواء البارد والماء البارد وظل نستظل فيه من حرارة الشمس، أتعلمون عباد الله ما هو هواء وماء وظل أهل النار، الجواب في قوله تعالى: ﴿ وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ، فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ، وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ، لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ ﴾.
نسأل الله تعالى أن يلطف بنا، وأن يرحمنا برحمته.. فحبيبنا ﷺ يقول: “مَنِ اسْتَجَارَ مِنَ النَّارِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالَتِ النَّارُ: اللَّهُمَّ أَجِرْهُ مِنَ النَّارِ”..
اللهم أجرنا من النار… اللهم اغفر لنا ذنوبنا…
الانترنت والأخلاق
(الانترنت والأخلاق) 16-2-2018
الحمد لله القائل: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)} (البقرة).
أشهد أن لا إِله إلا الله، حذّرنا أشد التحذير من اتباع اليهود، والسير على خُطاهم، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)} (سورة المائدة).
وأشهد أن محمداً ﷺ عبدُه ورسولُه، وقف أمام الناس، وقال: (لَيَحْمِلَنّ شرار هذه الأمّة على سَنَنِ الذين خلَوا من قبلهم- أهل الكتاب- حذو القُذَّةِ بالقُذَّة) أو (حذو النعل بالنعل)[1]..
أما بعد، فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله، والسير على سبيل النبي ﷺ، فهو سبيل النجاة والنجاح، وأحذركم بعد أن أحذر نفسي من تعدي حُدُودَهُ، فالله يقول: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) } (سورة البقرة).
أيها الأحبة الكرام: نحن نعيش في هذا العصر انفتاحاً عالمياً وثورة معلوماتية وتقنيات حديثة لها آثار خطيرة على شبابنا وفتياتنا الذين هم عماد الأمة وسبيل نهضتها وهم زينة حاضرها وأمل مستقبلها ولذا صَوَّبَ الأعداء لهم سهامهم ورموهم عن قوس واحدة، قال تعالى: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ (المائدة: 82)، أجل، إنهم أشد الناس عداوة للمؤمنين، ويستغلون كل وسيلة ممكنة لتحقيق هذه العداوة، المتمثلة في سَلخ المسلم عن عقيدته وعباداته وأخلاقه، وخَصّوا فئة الشباب منهم، فقد حاولوا تضليلهم وإغرائهم عن طريق وسائل الإعلام المختلفة وأخطرها وأكثرها ضرراً الإنترنت الذي يبثون فيها أخلاقهم العفنة، ويشوهون صورة الخير وأهله، ويُزينون ويُزخرفون الشر والكفر والإلحاد وأهله، ليقضوا على أخلاق شباب المسلمين، إناثهم وذكورهم.
كما أنهم ينشرون الأفكار الضارة بالدين والمتمثَّلة في الزعزعة الإيمانية بنشر الشبهات للتشكيك في المبادئ والقيم، والإساءة إلى الدين والقرآن والرسول صلى الله عليه وسلم، ونشر العقائد الفاسدة والأفكار المنحرفة كالوجودية والإلحاد والإباحية، ويستخدمون لذلك كل وسيلة ممكنة، حتى المشايخ المزَوَّرين المأجورين، والأقلام المسمومة، والشهوات المذمومة.
أيها الأحبة، وإن من أشد هذه الوسائل ما يُسمى بمواقع التواصل الاجتماعي، التي استغلها أعداءُ الدينِ أيما استغلال، فكم أسقطوا بواسِطَتِها من المسلمين في شَرَك العمالة، والسفالة، والانحطاط والنذالة، فكانوا أداة لهم يهدمون بها الدين والشعب والوطن.
كما أن من أكبر الجرائم التي تحصل بين المسلمين في الإنترنت ووسائل التواصل، والتي يتولى كِبرها اليهود؛ الفتنة الداخلية، المذهبية منها والحزبية، لتبقى العداوة بين أبناء المجتمع قائمة، كما كان يفعل سيدهم شاس بن قيس مع الأوس والخزرج قبل أكثر من 1430 سنة، فهم يعون جيدًا أن المسلمين إذا كانت بينهم العداوة قائمة فلن تقوم لهم قائمة.
وقد نجحوا بكل أسف، حتى وصلَ الأمَرُ إلى استغلال بعض المسلمين هذه المواقع فيما بينهم للفسادِ والإفساد، ومعصية ربّ العباد، والعلاقات المـُحَرَّمة والشات، والمواعيد والاتصالات، بين الشباب والبنات، حتى الأطفال أصبحوا مدمنين على هذه المواقع.
هذا النغف الذي نَخَرَ في جسم الأمة، وأي أُمة؟ خير أُمةٍ أُخرجت للناس، فانحطت الأخلاق، وماتت الهمم، وتراجع الشباب والبنات في دراسَتِهِم إلى أسوأ نسبة بعد أن تراجعوا في أخلاقهم وقد كانوا في القمة، وبهذا -أيها الناس- يَحِلُّ الغضبُ الربانيُّ، ويُفتَحَ باب العذاب الإلهي على مصراعيه، فقد سألت زينب بنت جحش رضي الله عنها النبي ﷺ فقالت: يا رسول الله أنهلكُ وفينا الصالحون؟ قال: (نعم إذا كَثُرَ الخبث)[2].
كيفَ بِرَبِّكُم يكثُرُ الخبث؟ أليس بمُخالفة العقيدة الربانية الصحيحة، الفطرة السليمة، والأخلاق القويمة؟ اسمعوا إلى قول المستشرق الإسباني “خوسيه أنطونيو كوندي” صاحب كتاب “تاريخ حُكّام العرب في إسبانيا”، وهو يقول: “إن العرب قد سقطوا عندما نَسُوا فَضَائِلَهُم التي جاءوا بها، وأصبحوا على قلبٍ متقلبٍ يميلُ إلى المَرَحِ والاسترسالِ بالشهواتِ”[3].
أيها الأحبة الكرام، إن الانترنت -كما تعلمون- سلاح ذو حدين، خيرٌ وشرٌّ، فخيره وشره مرتبط بمراقبتنا لربنا، مرتبط بيقيننا على قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، وقوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ [التوبة:78]، وقوله تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمْ اللهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المجادلة:6]،وقوله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 10,12]،.
خير الانترنت وشره مرتبط بالخشية والتعظيم لله تعالى، ومتى ما انفرط عقدها من حياة الإنسان وخلي منها القلب ضاع مصير هذا الإنسان، وضل عن الطريق، وتاه عن صراط الله المستقيم، وقد عرض النبي حالة توجل منها القلوب وتذرف منها الدموع حين قال: ((ليأتين أناسٌ من أمتي معهم حسنات كجبال تهامة بيض، يكبهم الله تعالى على وجوههم في النار))، قال ثوبان: صفهم لنا يا رسول الله! جلهم لنا! فقال : ((يصلون كما تصلون، ويصومون كما تصومون، ولهم ورد من الليل، غير أنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها))[4].
خير الانترنت وشره مربوط بتذكرنا الشهود والسجلات التي سوف تُنشر بين يديك يوم القيامة، {وَوُضِعَ ٱلْكِتَـٰبُ فَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يٰوَيْلَتَنَا مَا لِهَـٰذَا ٱلْكِتَـٰبِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]، {وَكُلَّ إِنْسَـٰنٍ أَلْزَمْنَـٰهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ كِتَابًا يَلْقَـٰهُ مَنْشُوراً ٱقْرَأْ كَتَـٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:13، 14].
أقول قولي هذا..
الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين…
أيها الناس.. لعل سائلاً يسأل: من هو المسؤول عن علاج هذه آثار؟
والحق كُل مسلمٍ يقول: لا إِلهَ إلا الله هو مسؤول عن علاجه، بأن يزرع مخافة الله ومراقبته في قلبه وقلوب الناس، فالحاكم مسؤول أمام الله عن أخلاق شعبه إذا لم يُرشدهم إلى الأخلاق الحسنة التي أرادها الله. والأب مسؤول عن أبنائه وَجَبَ أن يُراقبهم ويُوجههم لما يُريدُ الله، والأم مسؤولة في بيتها وجَبَ أن لا تألوا جُهداً حتى تُربيهم كما يُريد الله، والجار مسؤول في حارته وَجَبَ أن يُبلغهم ما أراد الله، والمدرّس مسؤول في مدرسته يجب أن يضع أمام عينيه مخافة الله، (وكلكم راعٍ وكُلّكُم ومسؤول عن رعيته) كما قال رسول الله، فَبِهِمَّة الجميع.. شباباً وشياباً.. رجالاً ونساءً، وبتوفيق الله وعونه قبل هذا وذاك؛ يصلح المجتمع، ويصلح الشباب، وتندثر الرذيلة والأخلاق العفنة، وبتضافرهم يتذكر شباب الأمة وشيابها أنهم حماة هذا الدين، وأنهم المدافعين عن عقيدته وأخلاقه..
يا قوم أنتم حُماةَ الدين فانتبهوا *** لا يؤتينَّ، وعيش الذل نأباهُ
قومٌ قضى الله أن العز يتبعَهُم***إن طبقوا الدين في أسمى مزاياهُ
قوم قضى الله أن تسموا مراكِبَهُم إن عانقوا الشرعَ واستنوا بتقواهُ
أهدى إليهم كتابًا فيه ذكرهمُ *** فمن تمسَّك بالقرآن زكَّاهُ
ومن تَحَصَّنَ بالإسلام حصَّنهُ *** ومن تَعَلَّقَ بالأخلاق أحياهُ
أنتم خلائف خير الخلق، لا تهنوا في سورة النور والأحزاب ذكراهُ
عَزْمُ الصحابة معقودٌ بهمتكم * لا يملك الظلم مهما طال يمحاهُ
اللهم يا ربنا احفظ شبابَنا وبناتنا حتى لا ينزلقوا بعيداً عن الحق وعن الدين وعن الأخلاق.. وَرُدّهم يا ربنا إلى دينك ردًّا جميلا..
اللهم يا ربنا من أراد بأخلاق شباب وبنات المسلمين خيراً فوفقه لكل خير..
[1] رواه أحمد وغيره، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم 3312. قال ابن الأثير في النهاية: “«حَذْوَ القُذَّة بالقُذَّة» أَيْ كَمَا تُقَدَّر كلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى قَدْر صاحِبتها وتُقْطَع. يُضرب مَثَلًا للشَّيئين يَسْتويان وَلَا يَتَفَاوَتَانِ”.
[2] رواه البخاري ومسلم، انظر صحيح الترغيب رقم 2311.
[3] مقال “أثر انهيار الأخلاق في انهيار الحضارات” د. راغب السرجاني.
[4] أخرجه ابن ماجه (4245)، والطبراني في الأوسط (4629)، والروياني في مسنده (651)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (505).
خطبة: الغفار صيغة مبالغة
(الغفار صيغة مبالغة) أريحا 25-5-2018م
الحمد لله… أيها المسلمون..
كثير من أسماء الله تعالى تأتي بصيغة المُبالغة، ومنها (الغفّار والغفور)، وذلك لتعظيم صفة المغفرة عنده جل وعلا، وبيان أنها تشمل كل الذنوب والمعاصي، مهما كانت في نظرنا كبيرة، فإنها أمام عفو الله وصدق التوبة لا شيء.
كل هذا حتى لا يقنط أحد من رحمة الله، ولا تيأس القلوب من القَبول، ألم نسمع ربنا تبارك وتعالى وهو يقول: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)} (الزُّمَر).
بل اسمعوا إليه تبارك وتعالى وهو يقول في الحديث القدسي: «لَوْ أَنَّ عَبْدِي اسْتَقْبَلَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا» تخيلوا أيها الأحبة قِربةً أو وعاءً بحجم الكرة الأرضية، والكرة الأرضية حجمها (510) مليون كم مكعب، فمن يملأها ذنوبًا؟ من يملأها معاصٍ؟ من يملأها سيئات؟ يقول الله الغفار: «لَوْ أَنَّ عَبْدِي اسْتَقْبَلَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا، اسْتَقْبَلْتُهُ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً»[1].. إنه أكرم الأكرمين.. إنه أرحم الراحمين..
وقد فتح لنا ربُّنا تبارك وتعالى أبوابًا كثيرة لمغفرة الذنوب، ومسح الخطايا، ونضرب في هذه العُجالة مثالاً، اسمعوا إلى الحبيب ﷺ وهو يقول: «إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ – أَوِ الْمُؤْمِنُ – فَغَسَلَ وَجْهَهُ، خَرَجَتْ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنَيْهِ مَعَ الْمَاءِ – أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ، أَوْ نَحْوَ هَذَا، فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ، خَرَجَتْ مِنْ يَدَيْهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ بَطَشَ بِهَا مَعَ الْمَاءِ – أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ -، حَتَّى يَخْرُجَ نَقِيًّا مِنَ الذُّنُوبِ»[2]..
هل تريدون مثالاً آخر؟ اسمعوا إلى الحبيب ﷺ وهو يقول: «تَحْتَرِقُونَ، تَحْتَرِقُونَ» شَبَّه الرسول ﷺ الذنوب والمعاصي التي يقترفها الإنسان بالنار التي تحرق جسده.. وتُدمي قلبه.. وتُشعل فكره وتفكيره.. «تَحْتَرِقُونَ، تَحْتَرِقُونَ، فَإِذَا صَلَّيْتُمُ الْفَجْرَ غَسَلَتْهَا، ثُمَّ تَحْتَرِقُونَ تَحْتَرِقُونَ، فَإِذَا صَلَّيْتُمُ الظُّهْرَ غَسَلَتْهَا، ثُمَّ تَحْتَرِقُونَ تَحْتَرِقُونَ، فَإِذَا صَلَّيْتُمُ الْعَصْرَ غَسَلَتْهَا، ثُمَّ تَحْتَرِقُونَ تَحْتَرِقُونَ، فَإِذَا صَلَّيْتُمُ الْمَغْرِبَ غَسَلَتْهَا، ثُمَّ تَحْتَرِقُونَ تَحْتَرِقُونَ، فَإِذَا صَلَّيْتُمُ الْعِشَاءَ غَسَلَتْهَا، ثُمَّ تَنَامُونَ فَلَا يُكْتَبُ عَلَيْكُمْ شَيْءٌ حَتَّى تَسْتَيْقِظُونَ»[3]..
هل تُريدون مثالاً آخر لسعة مغفرة الغفورالغفار؟ اسمعوا لحبيبكم رَسُول اللهِ ﷺ وهو يقول: «مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ فَيَتَصَافَحَانِ، إِلاَّ غُفِرَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقَا»[4]، وفي رواية عن سلمان الْفَارِسِيِّ رضي الله عنه، أَنّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا لَقِيَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ فَأَخَذَ بِيَدِهِ تَحَاتَّتْ عَنْهُمَا ذُنُوبُهُمَا، كَمَا تَتَحَاتُّ الْوَرَقُ مِنَ الشَّجَرَةِ الْيَابِسَةِ فِي يَوْمِ رِيحٍ عَاصِفٍ، وَإِلا غُفِرَ لَهُمَا، وَلَوْ كَانَتْ ذُنُوبُهُمَا مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ»[5].
بل إن مجرد الندم على المعصية يُعتبر توبة، وهذا ليس كلامي، بل كلام الحبيب ﷺ الذي يقول: «النَّدَمُ تَوْبَةٌ»[6].. بل أعظم من هذا أيضًا.. بل إن أي عمل حسن تُتتبِعه بالعمل السيئ يمحوه، كما قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)} (هود)، وكان الحبيب ﷺ يقول: «اتَّقِ اللهَ حَيْثُ مَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا»[7].
فهل هُناك سبيل للقنوط أو سبيل لليأس من رحمة الله بعد الآن؟ اقرأوا إن شئتم قول ربكم تبارك وتعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)} (طه).، وركزا جيدً في قوله تبارك وتعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)} (الفرقان).
يا من عدا ثم اعتدى ثم اقترفْ ** ثم انتهى ثم استحى ثم اعترف
أبشر بقول الله في آياته ** إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف
أقول قولي هذا..
الخطبة الثانية: الحمد لله…
أيها الأحبة. من أسماء الله تعالى التي تأتي على صيغة المبالغة أيضًا: (الكريم)، وهو اسم عام، يشمل كل كَرَمٍ وجودٍ يتفضَّل الله به على عباده، فهو ذو الفضل وذو الجود وذو الكرم.
ومن كرم الله تعالى أنه يقبل من يأتي إليه صادقًا، ويعفو عنه وإن كان في الذنوب غارقًا، اسمعوا إلى هذه القصة، هذا رجُلٌ شابّ جاء إلى رسول الله ﷺ فَقَالَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ مَنْ لَمْ يَدَعْ سَيِّئَةً إِلَّا عَمِلَهَا، وَلَا خَطِيئَةً إِلَّا رَكِبَهَا، وَلَا أَشْرَفَ لَهُ سَهْمٌ فَمَا فَوْقَهُ إِلَّا اقْتَطَعَهُ بِيَمِينِهِ، وَمَنْ لَوْ قُسِّمَتْ خَطَايَاهُ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَغَمَرَتْهُمْ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «أَسْلَمْتَ؟» قَالَ: أَمَّا أَنَا؛ فَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، قَالَ ﷺ: «اذْهَبْ، فَقَدْ بَدَّلَ اللهُ سَيِّئَاتِكَ حَسَنَاتٍ -تفعل الخيرات، وتترك السيئات، فيجعلُهُن اللهُ لك حسناتٍ كلهنَّ-» قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَغَدَرَاتِي وَفَجَرَاتِي؟ قَالَ: «وَغَدَرَاتُكَ وَفَجَرَاتُكَ» ثَلَاثًا فَوَلَّى الشَّابُّ، وَهُوَ يَقُولُ: اللهُ أَكْبَرُ، فَلَمْ أَزَلْ أَسْمَعُهُ يُكَبِّرُ، حَتَّى تَوَارَى[8].
بل اسمعوا إلى حبيبنا محمد ﷺ وهو يُخبرنا عن حوار قصير، بين رب العزة جل جلاله وإبليس، يقول ﷺ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَالَ: وَعِزَّتِكَ يَا رَبِّ، لَا أَبْرَحُ أُغْوِي عِبَادَكَ مَا دَامَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ، قَالَ الرَّبُّ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا أَزَالُ أَغْفِرُ لَهُمْ مَا اسْتَغْفَرُونِي»[9].. إنه كرم الكريم.. فلنتعرض لنفحات كرمه في رمضان.. ولنستغل هذا الشهر من بدايته لأجل توبة صادقة، وفتح صلة جديدة مع الله تعالى، فإنه موسم قد لا نُدركه مرة أُخرى…
[1] أخرجه أحمد (21322) والطيالسي (465) ، وأخرجه الدارمي (2767) ، وقال محقق المسند: حديث صحيح.
[2] أخرجه مسلم (244)، والترمذي (2)، وابن حبان (1040) وغيرهم.
[3] أخرجه الطبراني في الصغير (121)، انظر صَحِيح التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيب: 357.
[4] أخرجه أحمد (18547) وأبو داود (5212) والترمذي (2757) وابن ماجه (3703) وصححه الألباني في تحقيقه.
[5] أخرجه الطبراني في الكبير (6150) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ج8 ص37: «رجاله رجال الصحيح، غير سالم بن غيلان، وهو ثقة».
[6] أخرجه ابن ماجة (4252)، وأحمد (3568)، انظر صَحِيح الْجَامِع: (6802) وصَحِيح التَّرْغِيبِ: (3146).
[7] أخرجه الترمذي (1987)، وأحمد (21526)، انظر صحيح الجامع: (97) وصحيح الترغيب والترهيب: (2655).
[8] أخرجه الطبراني في الكبير (7235)، انظر الصَّحِيحَة: (3391).
[9] أخرجه أحمد (11237) وقال محققه: إسناده حسن، السلسلة الصحيحة (104).