خطبة: الأطفال والبرد الشديد..

28-1-2022م

إن الحمد لله، نحمدهُ، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، نحمدك يا الله حمد الشاكرين، ونستغفرك استغفار المسرفين، ونلجأ إليك لجوء المضطرين.

أشهد أن لا إِلهَ إلا لله الذي أوضح السبيل إلى الهدى، وبيّنه وأرشد إليه، وأقام الحجة على العالمين.

وأشهد أن محمدًا ﷺ عبده ورسوله، خير الخلق وحبيب الحق، صلى الله عليه وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعين،

أما بعد، فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فمن يتق الله يجعل لهُ مخرجًا من كل ضيق، ويرزقهُ من حيث لا يحتسب، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.

أيها الأحبة الكرام، ذكر المؤرخون أنه في مثل هذا الشهر (شهر جمادى الثانية) توفي إبراهيم ابن النبي ﷺ [1]، وعُمره ثمانية عشر شهرًا، وغسَّلته امرأة اسمها أم بُردة، ثم حَمَلوه على سرير (يعني نعش) إلى البقيع، حيث أنزله النبي ﷺ في قبره، ووارهُ التراب، ورَشّ على قبره بعض الماء، وقال قولته الشهيرة: (إن العين تدمع والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا) (البخاري:1303)..

ونحن في هذه الأيام أيها الكرام، والعالم كله يشهد موت آلاف الأطفال، ويا ليته موتًا طبيعيًا حتف النفس، لكن منهم من يموت قصفًا، ومنهم من يموت بالرصاص، ومنهم من يموت حرقًا، ومنهم من يموت على حدود الدول لاجئًا، ومنهم من يموت غرقًا في البحار هربًا من الظلم.. ومنهم من يموت جوعًا وحصارًا.. ومنهم من يموت في اليوم ألف ميتة في سجون الاحتلال.. فأي جريمة أعظم من أن يرى العالم موت هؤلاء الأطفال، أو يرى حتى ارتجافهم من البرد، ولا يُحرك ساكنًا؟

أي جريمة أعظم من أن يُقَلِّب العالم صفحات وسائل التواصل، فيرى الأطفال يموتون بسبب البرد والثلوج، وأقصى ما يفعله أن يُعلّق بصورة وجهٍ حزينٍ؟

فإذا كان الإسلام قد نهى بشدة أن يُقتُل الأطفال خشية إملاق (يعني لفقر)، واعتبر ذلك {خِطْئًا كَبِيرًا} (الإسراء: 31) فما بالكم بمن يتسبب في قتلهم لأجل تحقيق مكاسب مادية شخصية، أو لأجل عرشه المهترئ؟ ما بالكم بمن أنفق أموال شعبه وجهده ووقته لأجل قتلهم وقصفهم؟

وقد عدّ القرآن الكريم من يقتل أو يتسبب في قتل الأطفال من الخاسرين: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (الأنعام: 139)، فما بالكم بمن يقتلهم مُتعمدًا وبعلمٍ وبمعرفة ودراية وقَصد؟ وقد قرأتُ مرّة أنه أثناء حرب الصرب على المسلمين في البوسنة في التسعينات كانوا يُسمِّمون خزانات المياه في المدارس، فمات أكثر من 7000 طفل.

وقالَ تعالى: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} (المائدة: 32)، وبذلك شدَّد الإسلامُ على قاتلي أطفالِهم وتوعَّدَهُم اللهُ بالخلود في النّار، فما بالكم بمن يقتل أطفال غيره وأطفال شعبه وأطفال أمته؟

ما بالكم بمن يُراقب موتهم بسبب الثلوج، وارتجافهم من البرد عبر الشاشات، وفي يده سيجارة، وأمامه فنجان قهوة، ويُتمتم: الله يعينهم.. ولسان حال هؤلاء الأطفال يقول:

مَجامعُ الدمعِ جَفَّت في مآقينا *** وسَعَّرَ النارَ في الأحشاءِ ما فينا

ذُقنا المرارات ألوانًا مزخرفةً *** حتى رمانا بسهم الغدر رامينا

ونلبس الموت زيًا لا يُفارقنا *** وجمرة الذل لا تنفك تكوينا

ويعصِف اليُتمُ إعصارًا بأفئدةٍ *** لم تبلغ الحُلم أو تلقى تحانينا

لم يرحم البغي شيبًا في مفارِقِنا *** ولا دموع اليتاما والمساكينا

وصمتكم مبضَعٌ ماضٍ يُقَطّعنا *** يُقَرِّضُ اللحمَ مِنَّا والشَّرايينا

بينما يقول رب العزة: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ}، أي قلوبهم متحدة في التوادُدِ والتحابب والتعاطف، ويقول النبي ﷺ: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر» (متفق عليه).

ويقول ﷺ: «إن من أحب الأعمال إلى الله إدخال السرور على قلب المؤمن, وأن يفرِّج عنه غمًا, أو يقضي عنه دينًا, أو يطعمه من جوع» (رواه مسلم)..

و سُئِلَ الإمام مالك : “أي الأعمال تحب ؟” فقال: “إدخال السرور على المسلمين، وأنا نَذَرتُ نفسي أُفرِج كُرُبات المسلمين”..

فما أعظم أن تنتشر فينا وفي مجتمعاتنا ثقافة نفع الآخرين، بل: عبادة نفع الآخرين.. نعم.. عبادة نفع الآخرين.. ولا ننسى أن الله مع المحسنين.. ويُحب المحسنين.. وقريب من المحسنين..

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم..

الخطبة الثانية: الحمد لله…

أيها الأحبة الكرام: إذا كان الشتاء بالنسبة للبعض جوًا مليئًا بالبهجة واللعب في الثلج، والسهر بجانب المدفأة، والاستمتاع بصـوت زخّات المطر؛ فإنه بالنسبة لآخرين موتًا وقتلاً وأمراضًا وكابوسًا حقيقيًا، ومسغبة تستدعي العلاج الفوري من كل من بيده الأمر.. ومن كل من بيده أدنى مساعدة.. وأقل فائدة، فرسول الله ﷺ يقول: «مَنِ استطاعَ منكم أن ينفعَ أخاه فلْيفعَلْ» (مسلم:2199)..

«فليفعل» يعني: فليفعل ما استطاع.. فليفعل كل ما بوسعه.. فليفعل كل ما يقدر عليه.. لأن الذي يربطنا رابطًا إيمانيًا يربط قلوب المؤمنين جميعا مهما تباعدت بهم الأماكن، وحجزت بينهم الحواجز، وهو أوثق من أي رباط مادي، لأنه يُحيى في العقول فكرة الجسد الواحد، فيُعلي الحق، ويدافع عن المظلوم، ويرحم الضعيف، ويكفل الفقير، ويجبر الكسير، كل ذلك ابتغاء وجه الله سبحانه.

إنه رابط يدوم ولا ينقطع؛ بل يبقى أثره بين المؤمنين يستمر حتى بعد الحياة، فيظل صاحبه يثاب بصدقته الجارية، وبأثره النافع، ثم تكون المكافأة الكبرى في الآخرة.

ولا يقولن أحدٌ: ماذا سأفعل؟ فالرسول ﷺ قال: «فلْيفعَلْ» يعني كل ما يتطيع، سواء بيده أو بماله أو بقوته أو بلسانه أو بقلبه ودعائه، وذلك أضعف الإيمان.. فقبل أيام حبس أحدهم نفسه في غرفة وقرر ألا يخرج إلا بجمع المال لهؤلاء المهجّرين والمشردين..

فيا أيها المسلمون في كل مكان..

أما سمعتم رسول الله شَبَّهكم *** كالجِسم؛ إن يشتكي عُضوٌ يؤاذينا

يا أمة الحقِّ إن الحق يمقتكم *** إن لم تسيروا على درب النبيينا

لن يُعجِزَ العبدُ دعواتٍ يُرددها *** فهل مددتم أكف الصدقِ داعينا؟

لله نشكو ظلامات تُحيط بنا *** فمن سوى الله يرعانا ويحمينا

يا رب هيء لنا من أمرنا رشدًا *** واسكب على أهلنا صبرًا وتمكينا

الله أصلح أحوال المسلمين في كل مكان.. اللهم الطف بهم بلطفك العظيم.. وارحمهم برحمتك التي وسعت كل شيء.. اللهم في هذا البرد الشديد آوِ من مأوى له.. وألبس كل من لا لباس له، ودفئ كل من لا دفء له، وساعد كل من لا مُعيل له، اللهم رحمتك بكل مبتلي وكل مفقود وكل مريض وكل جريح وكل أسير، اللهم نستودعك كل من يتألم فاحفظهم بحفظك، واكلأهم بعينك، يا أرحم الراحمين.

اللهم اغفر ذنوبنا وذنوب المسلمين…


[1] وذكر الواقدي وغيره أنّ وفاته كانت يوم الثلاثاء 10 ربيع الأول سنة 10 هـ، والواقدي لا يُحتج به.