خطبة: وقفات مع كورونا 11-12-2020

خطبة: وقفات مع كورونا  11-12-2020

الحمد لله..

أيها الأحبة الكرام هناك عبر وعظات كثيرة يُمكن الاعتبار بها والاتعاظ من مرض كورونا وانتشاره، وهنا نقف معًا خمس وقفات سريعة مع هذا المرض.

الوقفة الأولى: لا يُغني حذر من قدر، فإذا أراد الله تبارك وتعالى أمرًا وقضاه فلا راد لقضائه، ولا مانع لأمره، فكم من الناس والأطباء اتخذوا كل الإجراءات اللازمة والاحتياطات إلا أنه قد أصابهم المرض، وهذا أيها الأحبة يدفعنا إلى تجديد إيماننا بالركن السادس من أركان الإيمان، وهو الإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره من الله تبارك وتعالى، ورسول الله ﷺ يقول: (وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ)[1]، وهذا يوجِّهُنا إلى الوقفة الثانية مع المرض، وهي:

الصبر على الابتلاء والمصائب والأمراض وغيرها من صروف وظروف الحياة،  والصبر فنّ لا يُتقنه إلا أهل الإيمان والراسخ، الذين لا يسخطون ولا يتضايقون ولا يعترضون على أمر الله وابتلائه، لهذا استحقوا الجائزة الكُبرى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)} (الزمر).. ومن جوائز الصابرين على البلاء والمرض أن الله يُكرمهم بأن يُصلي عليهم ويغشاهم برحمته ويقبل منهم ويتقبلهم: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (البقرة)، ويقول حبيبنا ﷺ: (إنَّ عِظم الجزاءِ من عِظمِ البلاء، وإنَّ الله عز وجلَّ إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم، فمَن رَضِي فله الرضا، ومَنْ سَخِط فله السُّخْط)[2].

والوقفة الثالثة أيها الأحبة هي: لا ضرر ولا ضرار، فالمسلم لا ينبغي له أن يضُرّ الآخرين بأي ضرر كان، فأي إنسان يشعر بأعراض المرض يجب عليه أن يعزل نفسه عن الناس بنية عدم إيذائهم بنقل العدوى لهم، وبهذا يتحصل على أجر عدم إيذاء الناس، وهذا دلالة على صدق إسلامه وإيمانه، ألم يقل حبيبنا (صلى): (ألَا أُخْبِرُكُم مَنِ المُسلِمُ؟ مَن سَلِمَ المُسلِمونَ مِن لِسانِه ويَدِه، والمُؤمِنُ مَن أمِنَه الناسُ على أمْوالِهِم وأنْفُسِهم..)[3].. وأنفسهم يعني: على حياتهم وصحتهم.. فإذا وقف بجانبك في الصلاة إنسان قد أمَّنَكَ وأنت غششته وآذيته بنقل العدوى له، فماذا تقول لله يوم القيامة؟ فمن أصيب بالمرض فليجلس في بيته حتى لا يؤذي الناس، والله تعالى يُكرمه بالأجر العظيم، اسمعوا إلى حبيبنا ﷺ وهو يقول: (تَكُفُّ شَرَّكَ عَنِ النَّاسِ فإنَّها صَدَقَةٌ) وفي رواية: (تَدَعُ النَّاسَ مِنَ الشَّرِّ؛ فإنَّهَا صَدَقَةٌ تَصَدَّقُ بهَا علَى نَفْسِكَ)[4]..

والوقفة الرابعة -أيها الكرام- هي: جُرعات من الرحمة والأمل، فالمريض أيها الأحبة يبقى مريضًا حتى ولو لم تظهر عليه أعراض المرض وفحصه إيجابي.. نفسيًا على الأقل يبقى مريضًا.. الحجر يُشعره بأنه مريض.. لذا يجب على الأصحاء الذين أكرمهم الله وأبعد عنهم المرض أن يُعطوا المريض جُرعات من الأمل، فلا يُعاملونه وكأنه أجرب، أو كأنه (عامل جريمة).. فهذا حبيبنا ﷺ يقول في ما يُروى عنه: (إذا دخَلْتم على مريضٍ، فنَفِّسوا له في أجَلِه؛ فإنَّ ذلك لا يردُّ شيئًا، ويطيِّب نفسه)[5]، وكان يدعو للمريض فيقول: (اللهم اشْفِ عبدك؛ يَنْكأ لك عدوًّا، أو يَمْشي لك إلى الصَّلاة)[6] وكأنه يقول له: سوف تشفى وتذهب للجهاد في سبيل الله وستذهب إلى الصلاة.. فما أكرمك يا رب وما أعظمك..

أقول قول هذا وأستغفر الله لي ولكم..

الخطبة الثانية: الحمد لله…

أما الوقفة الخامسة أيها الأحبة مع الحَجر، أو الاعتزال، وهو وقت فراغٍ سخره الله تعالى للعبد، يتعلم فيه القرآن أو يحفظ أو يتلو منه ما قُدر له، وقت فراغ يتقرب فيه العبد من الدين والأحكام والأحاديث، ففي الحديث: (مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ)[7] يعني يُقربه من القرآن والسُّنة والأحاديث والأحكام الشرعية وقيام الليل.

هذا الوقت الذي لم يكن يحصل عليه الإنسان لانشغاله الدنيا وزخرفها، وانشغاله بالحياة ومتاعبها ومشاقَّها والعمل والتجارة.. شغلته الدنيا فيسر الله له وقتًا يتدبر فيه آيات الله، ويتفكر في مخلوقاته وعظمته جل جلاله، وعبادة التفكُّر نادرة في هذه الأيام أيها الأحبة.. فلا تجد إلا القليل من يتفكرون في أنفسهم وفي مخلوقات الله تعالى.. والله لو تفكر الإنسان في جسمه وكيف يُقاوم الفيروس وتعمل كل خلايا الجسم للتصدي لهذا العدو الخارجي لزاد إيمانه بعظمة الله وقدرته وحكمته ورحمته بعباده..

وليعلم هذا الإنسان الذي قُدّر له الحجر أو الانعزال أن الله تعالى الكريم الجواد الرحيم لا ينساه من الأجر، أبدًا.. اسمعوا إلى حبيبنا ﷺ وهو يقول: (إذَا مَرِضَ العَبْدُ، أوْ سَافَرَ، كُتِبَ له مِثْلُ ما كانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا)، وفي رواية: (إذا مرضَ العبدُ أو سافرَ كتبَ لَهُ من العملِ ما كانَ يعملُهُ وَهوَ صحيحٌ مقيمٌ)[8].. فإذا كان من أهل صلاة الجماعة كُتبت له صلاة الجماعة كاملة غير منقوصة لأنه تركها رغمًا عنه.. وإذا كان من أهل صلة الرحم كتب الله له أجرها لأنه تركها رغمًا عنه.. وإذا كان من أهل الصيام وأي عبادة أُخرى كتبها الله له..

بكَتِ المَآذِنُ والمَسَاجِدُ أُغلِقَت * وبَكَى فؤادِي والمَدامِعُ تَنثُرُ

يا ربِّ فَـأذَن بِـانـكِشافٍ عـاجِلٍ * ما عَادَ صَبرٌ.. مَن لِبُعدٍ يصبرُ؟ نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفي كل مريض.. وأن يُعافي كل مُصاب.. وأن يلطف بكل مبتلى..


[1] أخرجه الترمذي (2305) وغيره، وصححه الألباني في صحيح الجامع (7833).

[2] أخرجه الترمذي (2396)، وحسنه الألباني في تحقيقه.

[3] أخرجه الترمذي (1621) مختصرا، وأحمد (23967) واللفظ له.

[4] أخرجه البخاري (2518)، ومسلم (84).

[5] ضعيف: رواه الترمذيُّ وابن ماجه، وله شاهدٌ من حديث جابر، لكنَّه كما قال الحافظ: أشدُّ ضعفًا، قال الألباني: ضعيف جدًّا؛ انظر: “ضعيف الجامع” (488).

[6] أخرجه أبو داود (3107) وأحمد، وصححه الألباني.

[7] أخرجه البخاري (71) ، ومسلم (1037).

[8] أخرجه البخاري (2996).