اليهود والحرب على المساجد 19-1-2024

اليهود والحرب على المساجد 19-1-2024

الحمد لله المحمودِ في عليائِه، حمدًا طيبًا مباركًا طاهرًا يليق بعظمته وكبريائِه، والحمدُ لله على آلائِه ونَعمائه، أحمده تعالى وأشكره، وأثني عليه وأستغفِره، وأسأله المزيدَ من فضله وعطائِه، وأشهد أن لا إِله إلا الله وحده لا شريك له…

لَقَد مَددتُ يدي بالذُّلّ مُفتقراً * إليكَ يا خيرَ من مُدّت إليهِ يدُ

فلا تَرُدَّنّـها يـا رَبّ خائبةً *** فَبَحرُ جودِكَ يروي كُلّ من يِرِدُ

أيها الأحبة الكرام، انظروا إلى هذا الربط العجيب بين هذه الأمور الثلاثة: (ثلاثةٌ في ضمان الله عز وجل، رَجُلٌ خَرَجَ إلى مسجد من مساجد الله عز وجل، وَرَجُلٌ خَرَجَ غازياً في سبيل الله، وَرَجُلٌ خَرَجَ حاجاً).. الأمر الأول: الخروج إلى المساجد لتثبيت العلاقة مع الله وترسيخ الصِّلِةِ به.. والثاني: الخروج للجهاد في سبيل الله لإعلاءِ كَلِمةِ اللهِ ولتثبيت شرع الله في هذه الأرض وحماية دينه من دنس المجرمين.. والثالث: الخروج للحج لتطهير هذه النفس من دنس الشهوات والشبهات التي تعصف من كل الاتجاهات..

ولقد رأينا المجرمين المحتلين يُرَكِّزون في إجرامهم على تدمير المساجد، فقد قصفوا في غزة مئات المساجد، بل قاموا بتلاوة توراتهم على أنقاضها وفي جنين وغيرها، تلك التوراة المكذوبة المزعومة التي تأمرهم بقتل الرجال والنساء والأطفال والشيوخ والحوامل والأجنة في بطون أمهاتِهِم.. نعم؛ هكذا تأمرهم توراتهم..

ولا ننسى أنهم بدأوا حربهم بالتذكير بنبوءة أشعيا، الذي كتب في سِفره: (يقول الرب : ” كل من وُجِدَ يُطعَن، وكل من أنحاشَ يسقطُ بالسَّيف، وتُحَطَّم أطفالُهم أمام عيونِهِم، وتُنهبُ بُيوتُهم وتُفضحُ نساؤهم” ( إشعيا 13 : 16).

نعم، هكذا يقول كتابهم.. أيها المسلمون. إن اليهود في المدينة المنورة الذين رضعوا من آيات توراتهم المجرمة، أرادوا هدم دين الله تعالى بتشجيع المنافقين على بناء مسجد الضِّرار، لينطلقوا منه إلى أعمالهم الإجرامية، وليُطفئوا نور الله، ﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)﴾ فأمر اللهُ نبيه والمسلمين بهدم مسجِدِهم وتحريقِهِ، وقَطَعَ دابِرَ فتنَتِهم، وَشَرِقُوا بِريقِهِم، وخابوا وخسروا.

فإذا كان الله تعالى يقول: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَا﴾ ما م أحد أظلم منهم، فما بالكم بمن يقصفها ويهدمها ويُدمرها على رؤوس المصلين العابدين القانتين؟ ﴿أُولَـٰئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ﴾ لن يأتي يومٌ ويدخلوا إلى الأقصى آمنين مطمئنين ما دام هناك رجالٌ تربوا في المساجد، لن يدخلوه إلا خائفين ما دام هناك طوفانٌ هادرٌ من الحُرَّاس يفدون الدينَ بأرواحهم، لن يدخلوه آمنين بل: ﴿لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)﴾ (البقرة).

أيها الأحبة الكرام: إنهم يُحاربون بيوت الله لأنهم يعلمون علم اليقين أن هذه المساجد هي المصنع الحقيقي الذي يتخرَّج منها رجال الله وحماة الدين والوطن.. فقد جلس عمر رضي الله عنه إلى جماعةٍ من أصحابه وقال لهم: “تمنوا”؛ فقال أحدهم: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءةٌ ذهبًا أنفقه في سبيل الله، وقال آخر: أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤاً وجواهر لأتصدق بها في سبيل الله، فقال عمر -ورضي الله عن عمر-: ولكني أتمنى ملئَ هذا المسجد -أو هذه الدار- رجالاً مثلَ أبي عبيدة بنِ الجراح، ومعاذِ بنِ جبلٍ، وسالمٍ مولى أبي حذيفة، فأستعين بهم على إعلاء كلمة الله.

رحم الله عمر الملهَم، إنه لم يتمن فضة ولا ذهبًا، ولكنه تمنى رجالاً من خريجي المساجد، تُفتح على أيديهم البلاد، وتُفتح لهم أبواب السماء.

لقد كان عمر يعلم، بأن الحضارات العظيمة، والرسالات الحقة، لا تحتاج إلى الجواهر المذخورة، والثروات المنشورة، ولكنها تحتاج قبل ذلك إلى الرؤوس المفكِّرة، والقلوب الكبيرة ، والعزائم القوية التي تحفظها، وباختصار: إنها تحتاج إلى رجال، وليس أيّ رجال. والحقيقة: أن رجلاً واحدًا قد يساوي شعبًا بأسره، وقد قيل: رجلٌ ذو همةٍ يُحيي أمة.

فلما حاصر خالد بن الوليد رضي الله عنه الحِيرةَ طلب من أبي بكر رضي الله عنه المدد، فما أمده إلا برجل واحد هو القعقاع بن عمرو، وقال: “لا يهزم جيش فيه مثل القعقاع” وكان يقول: “لصوتُ القعقاع في الجيش خير من ألف مقاتل”.

ولما طلب عمرو بن العاص رضي الله عنه المددَ من أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه في فتح مصر كتب إليه: “أما بعد: فإني أمددتك بأربعة آلاف رجل، على كل ألف: رجل منهم مقام الألف: الزبير بن العوام، والمقداد بن عمرو، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مخلد”.

وهذا محمد بن واسع، من التابعين الكبار، خرج للجهاد مع قتيبة بن مسلم، ولما صف قتيبةُ الجيش، قال: “التمسوا لي محمد بن واسع، فأتوه وقد توضأ واتكأ على رمحه يُصلي، ورفع سبابته إلى السماء ويدعو بالنصر، لأنه حفظ ووعى وفهم قوله تعالى: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ الله﴾، فتوجه إليه وحده، فعادوا وأخبروا قُتيبة أنه يُصلي ويدعو، فتهلل وجهه وقال: والله الذي لا إِله إلا هو! لأصبع محمد بن واسع خيرٌ عندي من مائة ألف سيفٍ شهير ومائة ألف بطل طرير.. لماذا؟ لأنه تربى في المساجد حق التربية. 

وها نحن نرى من الرجال الذين تربوا في بيوت الله، وعلى مائدة كتاب الله، ذوي إيمان عجيب يهز الجبال، يقول أحدهم بعد أن فَقَدَ عائلته: خُذ يا رب من دمائنا وأرواحنا حتى ترضى.. وكم من رجلٍ أعزُّ من المعدن النفيس، وأغلى من الجوهر الثمين، حتى قال رسول الله ﷺ (إنما الناس كإبلٍ مائة، لا تكاد تجد فيها راحلة) رواه البخاري.

فما أحوج الأمة اليوم إلى صناعة الرجال.. صناعة الأبطال..

لا يُصنع الأبطال إلا في مســاجــدنا الفسـاحْ

في روضة القرآن، في ظـل الأحـاديث الصحاحْ

شــعبٌ بغير عــقيـدةٍ ورقٌ تـذرّيه الريــاحْ

من خان حيَّ على الصلاة يخون حيَّ على الكفاحْ

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..

الخطبة الثانية:   الحمد لله…

أيها الناس: كما تعلمون فإن أول عملٍ عمله النبيُّ ﷺ بعد هجرته هو بناء المسجد، وذلك لتظهر فيه شعائر الإسلام التي طالما حوربت ومُنِعَت، قال تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى﴾.

وعندما بنى النبيُّ ﷺ المسجدَ حَفَرَ أساسه ثلاثة أذرع، لكن هذا الأساس حَفَرَ في قلوب أعداء الدين خندقاً كما بين السماء والأرض، حتى حاربوه وما زالوا يُحاربونه، وإن أول عمل يقومون به هو هدم المساجد وتدميرها.. وإن شئتم اكتبوا على جوجل: حرب الاحتلال الإسرائيلي على المساجد، لتروا العجب العُجاب مما فعلوه بمئات وآلاف المساجد من سنة 48 وحتى الآن..

بنى رسول الله ﷺ مسجده من طين، لكنه جعل الإيمان في قلوب من تَرَبّوا فيه كالجبال الرواسي، ورُفِعَت جُدران المسجد بما لا يزيد عن قامة الرَّجُل إلا قليلاً، لكن هذا المسجد رَفَعَ هِمَّة من تَرَبّوا فيه إلى السماء.. وما زال أحفادهم يواجهون عدوهم حفاة عُراة.. لكنهم جبال..

وأُغلِقَت الشُّقوق في سقف المسجد النبوي بجريد النخل، لكن هذا المسجد أَغلَقَ كُلَّ الشقوق بين المسلمين فأصبحوا كَرَجُلٍ واحدٍ إن اشتكى من عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.. لا ظُلم ولا حسد ولا بغضاء.. لماذا؟ لأنهم تربوا فيه.. وحفظوا القرآن فيه.. وتعلموا حُب الدفاع عن الدين والوطن والعرض فيه..

أيها الأحبة، يقول جل وعلا: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ﴾.

تَفَكَّروا في قوله تعالى (أَذِنَ الله أن تُرفَع).. فلا يوجد مخلوق لا في السماوات أو في الأرض يُمكِن أن يوقفَ عُلُوَّها أو ارتفاعها، حتى لو هدمها اليهود.. حتى لو قصفوها ودمروها.. حتى لو قرأوا توراتَهم فيها؛ لأن الله هو الذي أَذِن أن تُرفَع..

في هذه المساجد تَرَبّى رجالٌ، حَرِصوا عليها وحَرَسوها.. رِجالٌ وقفوا في وجه كل من يُحارب المساجد ويمنع أن يُذكَرَ فيها اسمه الله يسعى في خرابها.. رجالٌ حَبّبوا الناس في المساجد.. رجالٌ أَخَذوا بأيدي العصاة إلى المساجد..

رجالٌ أحَبّوا المساجد فَعَمَروها.. وداوموا على الصلاة فيها.. وسَرَدوا بالآلاف كتاب الله فيها غيبًا.. رجالٌ لا تُلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ ولا حتى كُلّ الدنيا عن ذكر اللهِ في المساجد.. فاستحقوا: ﴿لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾..

نحن الذين إذا ولدنا بُكرة *** كنّا على ظهر الخيول أصيلا

فليهدموا كل المآذن فوقنا *** نحن المآذن فاسمع التهليلا

إن يبتروا الأطراف تسعى قبلنا *** قُدُمًا لجنات النعيم وصولا

فالله أقوى من هدير سلاحهم *** أنعم برب العالمين وكيلا

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا… ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون… اللهم أنك قلت وقولك الحق: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ اللهم اهد أهل غزة إلى سُبل النصر، وسُبل الصبر، وسُبل التمكين، وسُبل الثبات، وسُبل الرضا بقدرك، وسُبل العزة، اللهم اهدهم سُبل الرزق، وسُبل الخير، وسُبل الغذاء، وسُبل العلاج، وسُبل الشفاء، وسُبل الدواء.

اللهم إنهم حُفاةٌ فاحمِلهم، اللهم إنهم عُراةٌ فاكسُهُم، اللهم إنهم جِياعٌ فأطعمهُم، اللهم إنهم مُصابون فشافهم.. اللهم إنهم مغلوبون فانتصر لهم.. اللهم إنهم مظلومون فانتقم لهم.. اللهم ثبت إخواننا المجاهدين في كل شبر من أرضك يا رب العالمين.

اللهم أرنا يومًا أسودًا في اليهود ومن شايعهم.. اللهم أنزل غضبك ومقتك عليهم وعلى من والاهم وأيدهم، اليهود و من والأهم يا رب العالمين.

اللهم إنك قلت وقولك الحق: ﴿وَضُرِبَت عَلَيهِم الذِّلَّةُ وَالمَسكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ﴾ اللهم اشف صدور المؤمنين بِذُلِّ اليهود ومسكنتهم، وحقق فيهم قولك، إنهم قد طغوا وبغوا وعاثوا في الأرض فسادا.

اللهم كما مزقوا الأطفال فمزقهم.. اللهم كما قتلوا النساء والرجال فاقتلهم.. اللهم كما يَتَّمُوا من بقي من الأطفال فَيَتِّم أطفالهم، وشردهم كما شردوا العائلات.. يا عزيز.. اللهم طهر المسجد الأقصى وفلسطين من رجزهم يا رب العالمين..


(1) حديث رقم: 3051 في صحيح الجامع، والسلسلة الصحيحة 598.