خطبة طريق إلى الجنة

طريق إلى الجنة ([1])..

الحمد لله الذي لا مانع لعطائه، ولا راد لقضائه، المرتجى في كل خير، وإليه المشتكى من كل شر، أشهد أن لا إِله إلا هو، وَعَدَ أهل الإيمان بالنصرِ وتَكَفَّل به فقال: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الروم:47)، ووعد أهل الكفر والظلم والإجرام بالهزيمة فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ﴾ (الأنفال:36)، فهو أهل الحمد والثناء، فله الحمد على كل حال وفي كل آنٍ.

وأشهد أن محمدًا ﷺ عبده ورسوله، بلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، فإن التقوى خيرُ زاد يوم القيامة، قال الله تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ (البقرة: 197). أيها الأحبة الكرام، نظر النبي ﷺ إلى الصحابة الكرام الذين كانوا يجلسون حوله، وسألهم؟ (مَن أصبَحَ مِنكُمُ اليومَ صائِمًا؟) فقالَ أبو بَكرٍ رضي الله عنه: أنا.. فقالَ ﷺ : (فمَن تَبِعَ مِنكُمُ اليومَ جِنازَةً؟) قالَ أبو بَكرٍ رضي الله عنه: أنا.. قالَ: (فمَن أطعَمَ مِنكُمُ اليومَ مِسكِينًا) قالَ أبو بَكرٍ رضي الله عنه: أنا.. قالَ ﷺ: (فمَن عادَ مِنكُمُ اليومَ مَرِيضًا؟) قالَ أبو بَكرٍ: أنا.. فصدر الحكم النبوي، وقال ﷺ: (ما اجتَمَعنَ في امرِئٍ إلَّا دَخَلَ الجَنَّةَ) (صحيح مسلم).

قال شُراح الحديث: قوله ﷺ: يعني ما اجتمعت هذه الأعمال في شخصٍ في يوم واحد إلا وأدخله الله تعالى الجنة بلا حسابٍ أو عذابٍ، وإلا فإن كثيرًا من المسلمين لم يعملوا هذه الأعمال ويدخلون الجنة.

هذه الأعمال الأربعة أيها الأحبة ما نَدَرَ أن يتحصَّل عليها شخص في يوم واحد، لكن أنتم أيها الأحبة يمكن أن تتحصلوا عليها اليوم، فأنت اليوم صائمون، وها هي بين أيديكم جنازة، وبقي إطعام مسكين وزيارة مريض.

اليوم نُشَيّع الشيخ إسماعيل زراع، الذي تَرَبى جيلُنا على خُطبه ودروسه، حيث كان يُردد في كل خُطبه تقريبًا كلمة: (أنت أيها المسلم أسدًا في زمن الخراف).. وفعلاً نحن نرى اليوم أسودًا في زمن تحول العرب كبارهم وصغارهم إلى خراف..

أيها الأحبة الكرام، هذه الأعمال الأربعة ما نَدَرَ أن يتحصَّل عليها شخص في يوم واحد، لكنها عند أهل غزة الآن تجتمع في كل يوم.. فالصيام عندهم قد بدأ قبل رمضان بستة أشهر.. وفي كل يوم مئات الجنازات.. وفي كل يوم آلاف المساكين الذين يحتاجون إلى الطعام.. في كل يوم آلاف المرضى والمصابين والجرحى.. هذه الأعمال الأربعة متواجدة بالآلاف يوميًا هناك، وهي كفيلة بأن تجعلهم بإذن الله من أهل الجنة الذين يخلونها بغير حساب ولا عقاب، بِنَصّ القرآن الحديث النبوي المؤكَّد بأداة التوكيد (إلا)..

فما بالكم لو أضفنا إليها أعمالاً أخرى: ماذا لو أضفنا إليها: من أصبح منكم اليوم صابرًا على فقدان أهله وأحبابه؟  والله تعالى يقول: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (الزُّمَر:10)؟ وفي الحديث القُدسي: (ما لعبدي المؤمن عندي جزاءٌ إذا قبضتُ صفيَّه من أهل الدنيا ، ثم احتسبه إلا الجنة ) (صحيح الجامع 8139)، وفي الحديث أيضًا: (من احتسب ثلاثة من صلبه دخل الجنة) (صحيح النسائي: 1871).. فما بالكم بمن يحتسب العشرات من أحبابه؟

ماذا لو أضفنا إليها: من أصبح منكم اليوم شهيدًا شاهدًا على جُرم المجرمين اليهود قتلة الأطفال والنساء؟ وعلى ظلم وجور ونفاق الأخوة وأبناء الملة والدين؟ والله تعالى يقول: ﴿وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ﴾ (سورة محمد).

ماذا لو أضفنا إليها: من أصبح منكم اليوم ثابتًا مُرابطًا في أرضه لا يتركها للمجرمين قتلة الأطفال؟ والنبي ﷺ يقول: (مَنْ مَاتَ مُرَابِطًا، وُقِيَ فِتْنَةَ الْقَبْرِ، وَأُومِنَ مِنَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ، وَغُدِيَ عَلَيْهِ وَرِيحَ بِرِزْقِهِ مِنَ الْجَنَّةِ، وَكُتِبَ لَهُ أَجْرُ الْمُرَابِطِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) (مسند أحمد: 9244).

ماذا لو أضفنا إليها: من أصبح منكم اليوم مُشَرَّدًا ضعيفًا لا مأوى له؟ والله تعالى يقول: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ﴾ (سورة الحج).

ماذا لو أضفنا إليها: من أصبح منكم اليوم مصابًا جريحًا لا زال دمه على جسده؟ ورسول الله ﷺ: (ما من مَكلومٍ يُكلَم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وكَلْمُه يَدمي، اللون لون الدم والريح ريح المسك) (متفق عليه).

ماذا لو أضفنا إليها: من أصبح منكم اليوم فاقدًا لعضو من أعضائه، موقنًا أنه سيسبقه إلى الجنة؟ والنبي ﷺ يقول: (إِنَّ اللهَ قَالَ إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بِحَبِيبَتَيْهِ فَصَبَرَ عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا الْجَنَّةَ) (صحيح البخاري).

ماذا لو أضفنا إليها: من أصبح منكم اليوم أسيرًا عند أحطّ خلق الله وأكثر الناس إجرامًا؟ والله تعالى يقول على لسان أهل الجنة: ﴿وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا﴾ (سورة إبراهيم: 12).

ماذا لو أضفنا إليها: من أصبح منكم اليوم راضيًا بقضاء الله مؤمنًا محتسبًا؟ ورسول الله ﷺ يقول: (إن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا) (الترمذي :2396).

ماذا لو أضفنا إليها: من أصبح منكم اليوم فقيرًا يتيمًا حافيًا عاريًا لا يجد من يمسح على رأسه؟ ورسول الله ﷺ يقول: (قُمتُ على باب الجنة، فإذا عامَّةُ من دخَلَها المساكينُ، وأصحاب الجَدِّ محبوسون) (مُتفق عليه).. (أصحاب الجِدّ) يعني: أصحابُ الحَظِّ وأصحاب الغنى وأصحاب القصور وأصحاب النفط وأصحاب المال وأصحاب الألقاب كالفخامة والسعادة والسمو والجلالة وأيضًا أصحاب السماحة الذين يُعاونوهم بالفتاوى الظالمة، ويُبررون الظُّلم بتبريرات هشة.. كل هذا فوق تلك الأعمال الأربعة كفيلة بأن تجعلهم من أهل الجنة بإذن الله تبارك وتعالى، فقد جاهدوا حين تخاذل الناس.. وصبروا حين جَزِعَ الناس.. وثبتوا حين نافق الناس، وشَمَخوا حين خَنَعَ الناس، والله تعالى يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)﴾ (سورة الصف). أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..

الخطبة الثانية.. الحمد لله..

أيها الأحبة الكرام، كما تعلمون فنحن في زمن الفتن، حيث يقول الرسول ﷺ : (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ، وَتَكْثُرَ الزَّلَازِلُ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ، وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ، وَهْوَ الْقَتْلُ الْقَتْلُ) (أخرجه البخاري)، ويقول أيضًا: (بادِروا بالأعمالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيلِ المُظلِمِ، يُصبحُ الرَّجُلُ مُؤمِنًا ويُمسي كافِرًا، أو يُمسي مُؤمِنًا ويُصبحُ كافِرًا، يَبيعُ دِينَه بعَرَضٍ مِنَ الدُّنيا) (رواه مسلم).

وللنجاة في هذا الزمان يجب أن يتمسَّك المسلم بدينه، رغم كُل الصعوبات التي تجعل هذا التمسُّك كالقبض على الجمر، لهذا أمرنا النبي ﷺ لكي نتجنب الفتن بقوله: (بادروا بالأعمال) يعني الأعمال الصالحة حتى لا تنشغل قلوبكم بالفتن فتَضِلّ.

ومن المنجيات من الفتن أيضًا أن نَدُورَ مع الإسلام ومع الدين حيث دار، ومع أهل الدين وأهل الصلاح وأهل الخير حيث داروا، وأن لا نَدُورَ في فَلَك الظُّلم وأهله عربًا كانوا أم عجمًا، لهذا جاء في الحديث الصحيح: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله منه بعقاب» (سنن الترمذي:2168).

أيها الكرام: اسمعوا إلى هذا الحديث العجيب، يقول ﷺ: (هل تدرونَ مَن أوَّلُ مَن يدخُلُ الجنَّةَ مِن خَلْقِ اللهِ؟) قالوا: اللهُ ورسولُه أعلَمُ، قال: (أوَّلُ مَن يدخُلُ الجنَّةَ مِن خَلْقِ اللهِ الفُقَراءُ المُهاجِرونَ الَّذينَ يُسَدُّ بهم الثُّغورُ وتُتَّقَى بهم المَكارِهُ ويموتُ أحَدُهم وحاجتُه في صدرِه لا يستطيعُ لها قضاءً فيقولُ اللهُ لِمَن يشاءُ مِن ملائكتِه: ائتُوهم فحَيُّوهم، فيقولُ الملائكةُ: ربَّنا نحنُ سُكَّانُ سمَواتِكَ وخِيرتُكَ مِن خَلْقِكَ أفتأمُرُنا أنْ نأتيَ هؤلاءِ فنُسلِّمَ عليهم؟ قال: إنَّهم كانوا عبادًا يعبُدوني لا يُشرِكون بي شيئًا وتُسَدُّ بهم الثُّغورُ وتُتَّقى بهم المَكارِهُ ويموتُ أحَدُهم وحاجتُه في صدرِه لا يستطيعُ لها قضاءً قال : فتأتيهم الملائكةُ عندَ ذلكَ فيدخُلونَ عليهم مِن كلِّ بابٍ: ﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ (الرعد: 24) (صحيح الترغيب: 3183).

يا أُمة الحـق إن الجُرحَ متسعٌ *** فهل تُرى من نزيف الجرح نعتبرُ

ماذا سـوى عـودةٌ لله صادقةٌ *** عسى تُغَيَّرُ هـذي الحـالُ والصورُ

اللهم انشر رحمتك على أهل فلسطين عامة، وأهل غزة خاصة .. اللهم الطف بهم.. وصب عليهم الصبر والثبات صبا.. اللهم انصرهم بنصر من عندك تُبَدِّل به خوفَهم أمنا.. وحزنَهم فرحا.. وهمَّهم فَرَجا.. وضيقَهم سَعَة.. وضعفَهم قوة.. وهوانَهم عزا.. يا عزيز يا قدير..

اللهم كن لهم عونا.. وارحم ضعفهم.. واجبر كسرهم.. وتول أمرهم.. وسدد رميهم.. واجعل نيران عدوهم عليهم بردا وسلاما..

اللهم إنهم حُفاةٌ فاحمِلْهم وعُراةٌ فاكْسُهُم وجِياعٌ فأَطعمهُم.. وخائفون فأمنهم.. ومغلوبون فانتصر لهم..

اللهم يا من لا تضيعُ عنده الودائع فاحفظهم بحفظك ورعايتك.. اللهم احفظ أرواحهم وأبناءهم وردهم إلى ديارهم مردًا كريمًا آمنًا..

اللهم انتقم من اليهود المعتدين المجرمين قتلة الأطفال، اللهم اقذف الرعب في قلوبهم، وردّ كيدهم في نحورهم، اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم .. 

اللهم ارحم آباءنا وأمهاتنا كما ربونا صغارا…  


([1]) مسجد الفاروق كَفر نعمة  29-3-2024م ، 19 رمضان 1445 هـ.