خطبة الحجر والشجر

خطبة الحجر والشجر 20/10/2023…

الحمد لله القوي المتين، الغالب الذي لا يُغلب ولا يُقهر، أحمده وأشكره وأُثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إِله إلا الله وحده، لا يُرَدُّ قضاؤه، فعال لما يريد سبحانه، لا يتحرك من متحرك ولا يسكن من ساكن إلا بأمره وعلمه، بيده العزة والذلة، وبيده الرِّفعة والخفض ﴿وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) ﴾ .

واشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى اله وصحبه أجمعين.

أما بعد، أيها الناس: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281) ﴾.

أيها المؤمنون، جاء في الصحيحين أن النبي ﷺ قال: (لا تقومُ الساعةُ حتى يقاتلَ المسلمون اليهودَ، فيقتلُهم المسلمون، حتى يختبيءَ اليهوديُّ من وراءِ الحجرِ والشجرِ، فيقولُ الحجرُ أو الشجرُ: يا مسلمُ يا عبدَ اللهِ هذا يهوديٌّ خلفي، فتعالَ فاقْتلْه)..

وإن كنا لا نشُكّ في هذا الحديث لأنه ثبت عن النبي ﷺ، لكننا بعد ما رأينا في هذه الأحداث ازددنا إيمانا وتصديقًا أن الشجر والحجر والجمادات سوف توشي باليهود، سوف تُبلّغ عنهم للمسلمين، تلك الحجارة التي أسقطوها على رؤوس الأطفال والنساء والرجال والشيوخ.. تلك الحجارة التي أسقطوها على رؤوس المرضى والحوامل في المستشفيات.. تلك الأشجار التي لم تسلم من نارهم فأحرقوا بها العباد سوف تشهد عليهم وتوشي بهم.

هؤلاء المجرمون الذين ما تورعوا عن قتل الأنبياء: ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾، فماذا تظنون من أمة تقتل أنبيائها ورجال الإصلاح والخير فيها.. أمة فقدت إنسانيتها وآدميتها.

ما تورعوا فكذبوا على الله وكذّبوا رُسُلَه وكُتُبَهُ، فحرفوها ﴿يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ فوضعوا فيه من النصوص ما يُشجعهم على القتل والتدمير، فهل تعلموا بم يأمرهم كتابهم ؟ أو ما كتبوه في كتابهم الذي يزعمون أنه مقدس؟! “اقتلوا كل ذكر من الأطفال وكل امرأة” (العدد 31: 17). فيه: “احرقوا حتى بنيهم وبناتهم بالنار” (التثنية 12: 31). فيه: “واضربوا. لا تشفق أعينكم ولا تعفوا.6 الشيخ والشاب والعذراء والطفل والنساء اقتلوا للهلاك” (حزقيال 6:6)، فيه: “فابتدأوا بالرجال الشيوخ الذين أمام البيت. 7 …  واملئوا الدُّور قتلى”(حزقيال 6:7)..

وقد طبقوا هذه الأقوال عمليًا من قبل، وما زالوا، فَقَتَلوا نبي الله يحيى، وحاولوا قتل عيسى، وحاولوا اغتيال نبينا محمد ﷺ عدة مرات، لكن الله حفظه منهم ومن مكرهم وكيدهم. رغم العهود والمواثيق ومعاهدات السلام التي بينه ﷺ وبينهم، وبعده أسسوا لكل فتنة على مر التاريخ. . وإن شئتم فابحثوا عمن أشعل الحروب العالمية الأولى والثانية.. على سبيل المثال لا الحصر..

فهم أهل الغدر فلا عهد لهم ولا ذمة، قال الله عنهم: ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ (البقرة:100) فاسمعوا يا من تُعوِّلون على اتفاقيات وسلام وحبر على ورق.

هم أهل الفساد والإفساد: قال تعالى: ﴿وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ (المائدة:64)، فهل أكثر مما نرى فسادًا وإفسادًا؟؟

هم أكثر الخلق كذبًا وبهتانًا، فإذا كانوا: ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ ٱلْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ (آل عمران: 75)، فهل تتوقعون أن لا يكذبوا على الناس ويتهمونهم زورًا وبُهتانًا سيتورعون عن نشر وإثارة الإشاعات الكاذبة المغرضة التي تهبّط معنويات الشعب وهمته؟ وجُل الإعلام تحت أمرهم ويُروّج لروايتهم ولكذبهم.

اليهودُ في كتاب الله: قومٌ حسَّاد، مُلئت قُلوبهم غِلًا وحقدًا فلا يرونَ لغيرهم حقٌّ في أي شيء حتى في الحياة: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ﴾ (البقرة: 109).

أما جرائمهم اليوم في كل العالم وعلى أرض فلسطين بالأخص فحدث ولا حرج، فهم أساتذة الإرهاب والإجرام والقتل، ومجازرهم لا تكاد تُحصى، لهذا استحقوا أن يحكم الله تعالى فيهم بأنهم (مغضوب عليهم) إلى يوم القيامة، وجعلهم أذلاء مهانين فقال: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ﴾ (آل عمران:112).

ثلاث مرات ذُكر في القرآن وصفهم بأنهم (يعتدون)، فالاعتداء على الآخرين دينهم وديدنهم، وصفة ثابتة مُتأصلة فيهم.

استحقوا أن يُلعنوا على لسان أنبيائهم: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ﴾ (المائدة:78).

استحقوا أن يحكم الله فيهم ويقول: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ۗ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ﴾ (الأعراف 167)..

بل حَكَمَ اللهُ حتى على من يُواليهم ويؤيدهم ويدعمهم وينافق لهم ويُبرر جرائمهم وينشر رواياتهم الكاذبة، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ (المائدة:51).

لهذا فقد عزموا العداوة للعرب والمسلمين، بل كانوا أشد الناس عداوة كما قال تبارك وتعالى: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ﴾.

فالمعركة بيننا وبينهم مستمرة إلى أن يأتي أمر الله، وستُطهَّر الأرضُ المقدسة من رجسهم وجرائمهم. يقول أحد قادتهم دايفيد بن غوريون: “نَحْنُ لَا نَخْشَى الِاشْتِرَاكِيَّاتِ وَلَا الثَّوْرِيَّاتِ وَلَا الدِّيمُقْرَاطِيَّاتِ فِي الْمِنْطَقَةِ، نحن نخشى الإسلام ذلك المارد الذي نام طويلا وبدأ يتململ…”، المعركة إذن مستمرة، وسيسقط فيها شهداء، ويثبت فيها شرفاء أوفياء لدينهم وأرضهم وعرضهم ومقدساتهم، ويكون هناك جبناء وعملاء، هانت عليهم أمتهم ودينهم وأرضهم ومقدساتهم، فالخزي والعار عليهم.

﴿ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾ (الشعراء: 227)… أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:.. الحمد لله…

أيها الكرام، ما أعظم ذلك الصبر والجلد والثبات الذي رأيناه في أهل غزة، رجالاً ونساء، كبارًا وصغارًا، على الرغم من تعدد النكبات والويلات وجَور الأعداء وخيانة الأقارب والجيران وشدة الحصار، إلا أنّ ذلك كله لم يكن ليزعزع الإيمان في قلوبهم ولا الأمل في نفوسهم.

أيها الكرام، يقول ﷺ: ( واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا )، ففي صراعنا مع اليهود لا يجب أن يحدث لدينا انكسار داخلي بسبب ما نراه من قتل ودمار في صفوفنا، فنحن وإن كنا نألم فهم كذلك يألمون، ﴿وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾.. فالله مولانا ولا مولى لهم.

إن واجبنا نحو هذا الحدث الجلل وما يحدث لإخواننا في غزة الصامدة المجاهدة أن نعود إلى الله بالتوبة والإنابة نعود إلى ديننا وإلى أخلاقِ إسلامِنا، فننصره ونُطبقه في حياتنا حتى ينصرنا الله، فهو يقول لنا: ﴿ إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾.

واجبنا أن نكثر من الدعاء لإخواننا في غزة، وأن نقدم لهم ما نستطيع، ففي الحديث: (والله لا يؤمن والله لا يؤمن من بات شبعان وجاره جائع وهو يعلم به).

فواصلوا ـ أثابكم الله ـ دعمكم، فمن فرّج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن أعان مسلمًا أعانه الله، ومن نصر مسلمًا نصره الله، ومن آوى مسلما آواه الله، ومن ستر مسلما ستره الله، ومن خلف مجاهدًا ومرابطًا في أهله بخير فقد شاركه الأجر.

أيها الأحبة، قيل لأحد الصالحين: لقد طال الظُلم؟ فقال: إذاً لقد قصُر عمر الظالم.

قالوا: ما أقسى هذه المِحنة ؟ فقال: وما أعظم هذا الأجر .

قالوا: والله، كاد الأمل أن ينفد. فقال: إذاً أوشك الفرج أن يأتي.

قالوا: عجيب أمرك، أفكلّما حدّثناك بشيء حدّثتنا بعكسه ؟! من أين جئتَ بهذا؟

قال: هذا من تفسير كلام الله عزّ وجل: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ﴾.

تفاءلوا واستبشروا بفرج الله.. والنصر قريب بإذن الله..

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا… ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون… اللهم أنك قلت وقولك الحق: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ اللهم اهد أهل غزة إلى سُبل النصر، اللهم اهدهم سُبل الصبر، اللهم اهدهم سُبل التمكين، اللهم اهدهم سُبل الثبات، اللهم اهدهم سُبل الرضا بقدرك، اللهم اهدهم سُبل العزة، اللهم اهدهم سُبل الرزق، اللهم اهدهم سُبل الخير، اللهم اهدهم سُبل الغذاء، اللهم اهدهم سُبل العلاج، اللهم اهدهم سُبل الشفاء، اللهم اهدهم سُبل الدواء.

اللهم إنهم حُفاةٌ فاحمِلْهم، اللهم إنهم عُراةٌ فاكْسُهُم، اللهم إنهم جِياعٌ فأَشْبِعْهُم، اللهم إنهم مُصابون فشافهم.. اللهم إنهم مغلوبون فانتصر لهم.. اللهم إنهم مظلومون فانتقم لهم.. اللهم ثبت إخواننا المجاهدين في كل شبر من أرضك يا رب العالمين.

اللهم أرنا يومًا أسودًا في اليهود ومن شايعهم.. اللهم أنزل غضبك ومقتك عليهم وعلى من والاهم وأيدهم، اليهود و من والأهم يا رب العالمين.

اللهم إنك قلت وقولك الحق: ﴿وَضُرِبَت عَلَيهِم الذِّلَّةُ وَالمَسكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ﴾ اللهم اشف صدور المؤمنين بِذُلِّ اليهود ومسكنتهم، وحقق فيهم قولك، إنهم قد طغوا وبغوا وعاثوا في الأرض فسادا.

اللهم كما مزقوا الأطفال فمزقهم.. اللهم كما قتلوا النساء والرجال فاقتلهم.. اللهم كما يَتَّمُوا من بقي من الأطفال فَيَتِّم أطفالهم، وشردهم كما شردوا العائلات.. يا عزيز.. اللهم طهر المسجد الأقصى وفلسطين من رجزهم يا رب العالمين..

خطبة (والعاقبة للمتقين)

خطبة (والعاقبة للمتقين) 24-11-2023

إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، القائل: ﴿إِنَّهُم يَكِيدُونَ كَيدًا (15) وَأَكِيدُ كَيدًا (16) فَمَهِّلِ ٱلكَٰفِرِينَ أَمهِلهُم رُو    َيدًا (17) ﴾.

وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، القائل: «ما من امرئ يخذل امرأ مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه، إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئ ينصر مسلما في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته، إلا نصره الله في موطن يحب نصرته».. صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين… أمّا بعد:

فاتّقوا الله -عباد الله- فإن التقوى سبيل إلى معية الله، قال تعالى: ﴿ وَاعلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ ﴾.

أيها الكرام، إن الله تبارك وتعالى يأمُرنا ويقول: ﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)﴾ (آل عمران)..

﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾ سُنن يعني ثوابت راسخة، وقواعد ربانية لا تتبدل ولا تتحول، ﴿فَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)﴾ انظروا وتفكروا وتدبروا في أحوال الأمم السابقة، لتجدوا قواعد وسُنن ربانية ثابتة تنطبق على كل زمان ومكان.

ومن هذه السنن والقواعد الربانية التي ذُكرت في القرآن أربع مرات هي قوله تعالى: ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ فالنهاية في كل أمر لأهل التقوى، لابُد أن يكون النصر في النهاية لأهل التقوى، لابُد أن تكون النجاة في النهاية لأهل التقوى، لا بُد أن تكون الخيرية في النهاية لأهل الإيمان.. وفي آية أخرى: ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْتَّقْوَى﴾ يعني لفكرة التقوى والعدل والحرية والخير والصلاح.

ولو تتبعنا أيها الكرام أحوال الأمم السابقة لوجدنا هذه السنة الثابتة تتكرر، فأنبياء الله تعالى كلهم تعرضوا للاضطهاد والاعتداء والإيذاء من أقوامهم، حتى قَتل بنو إسرائيل الأنبياء، وطاردوا عيسى وحاولوا قتله، وقتلوا زكريا، واتهموا سُليمان عليهم الصلاة والسلام أجمعين، لكن في النهاية كانت العاقبة للمتقين: ﴿وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ (٥٨ هود)، ﴿فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ﴾ (٦٦ هود).. ﴿وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾ (٩٤ هود).. ﴿وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ…﴾ (٧٤ الأنبياء)..

أما محمد صلى الله عليه وسلم ومن معه، فكم أوذوا؟! وكم اضطُهِدوا؟! وكم ضُربوا وهُجِّروا من ديارهم ولجئوا إلى بلاد الغُربة، لكن في النهاية كانت العاقبة للتقوى..

وفي اتفاقية صُلح الحديبية التي كان فيها شروطًا ليست في صالح المسلمين ظاهريًا، لكن الله تعالى جعلها مفتاح للنصر والعزة، فأتبعها بفتح مكة، وكانت العاقبة للمتقين.

ولو نظرنا إلى التاريخ، لوجدنا أن الصليبيين فعلوا بالمسلمين الأفاعيل، حيث قتلوهم ودمروا بلادهم وعاثوا فسادًا على طول الطريق من روما إلى القدس، ففي معرة النعمان مثلاً؛  قتلوا جميع من كان فيها من المسلمين واللاجئين من المملك المجاورة الذين اختبئوا في الجوامع والسراديب ، فزادوا على ثمانين ألفًا.

وفي القدس مذبحة استمرت عشرة أيام يُرَجِّح المؤرخون أنها أودت بحياة نحو مئة ألف مقدسي، وأحرقت الجثث وقُطِّعَت الأيدي والأرجل والأصابع وشُقَّت البطون، وحَولوا الأقصى إلى اصطبل للخيول.

اقرءوا ما كتبه ” غوستاف لوبون ” في كتابه ” الحضارة العربية ” – نقلاً عن روايات رهبان ومؤرخين رافقوا الحملة الصليبية الحاقدة على القدس حيث يقول الكاهن (ريموند داجميل ) وهو شاهد عيان: “في مسجد عمر أفرط قومنا في سفك الدماء، وكانت جثث القتلى تعوم في الساحة هنا وهناك، وكانت الأيدي المبتورة تسبح كأنها تريد أن تتصل بجثث غريبة عنها، فأفنوهم عن بكرة أبيهم في ثمانية أيام، و لم يستبقـوا منهم امرأة و لا ولدا و لا شيخا”..

لكن؛ وبعد 99 سنة، في النهاية كانت السُّنة الربانية العظيمة، حيث سخر رب العالمين رجالاً كصلاح الدين رحمه الله تعالى، حيث نصرهم الله تعالى، ومرَّغوا أنوف الصليبيين في التراب، وأعزَّ الله الإسلام والمسلمين، وكانت العاقبة للمتقين.

أما التتار والمغول، فحدث عنهم ولا حرج، فإنه لا يخفى عليكم أمرهم، وما قتلوا ودمروا وحيث أحرقوا الأخضر واليابس، من أفغانستان وحتى وصلوا فلسطين، فعلى سبيل المثال لا الحصر قتلوا في خوارزم وحدها أكثر من مليون ومائتي ألف إنسان.. وفي بغداد قتلوا نحو مليون مسلم كما يقول أهل التاريخ..

لكن في النهاية كانت السُّنة الربانية العظيمة، حيث سخَّر الله تعالى رجالاً أمثال قُطز والظاهر بيبرس وغيرهم، ممن أذلوا التتار ومرغوا أنوفهم في الأرض، وكانت العاقبة للمتقين، أهل الصلاح وأهل الخير.. فرَجعوا بالخَيبةِ والخُسرانِ وانقطعَ ذِكرُهُم إلا بالشَّرِّ، وتلكَ ديارُهُم يَلُوحُ فيها صَوتُ الأذَانَ كلَّ يومٍ خَمسَ مَرَّاتٍ، تِلكَ دِيَارُهُمْ شَاهِدَةٌ على أنَّ اللهَ نَاصِرٌ دِينَهُ.. وناصر أهلَ دينِه.

﴿الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ سُنةٌ قائمةٌ ثابتةٌ على مُستوى الأمة.. وعلى مستوى الدول والجماعات، حتى الأفراد.. فالإمام أحمد رحمه الله -على سبيل المثال لا الحصر- عُذب وأوذي وسُجن، وفي النهاية كانت ﴿الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾.. وعبد الله بن حذافة السهمي أوذي هو ومن معه من الأسرى وعُذِّبوا وابتُلوا بشتى أنواع الابتلاءات حتى كان يُلقى إخوانُهُم أمامهم في الزيت المغلي حتى تطيش عظامهم، لكنهم صبروا وثبتوا وكانت وفي النهاية ﴿الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ فأُطلِقَ الأسرى كُلُّهم، وقبَّل أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه رأسه..

ففي بدر كانت ﴿الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾.. وفي الأحزاب وخيبر وبني قريظة.. كانت ﴿الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾.. وفي فتح مكة كانت ﴿الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾.. وفي القادسية والمدائن كانت ﴿الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾.. وفي معركة المنصورة كانت ﴿الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾.. وفي معركة ملاذكرد كانت ﴿الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾.. لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين.. قال تعالى: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (49:هود).. أقول قولي هذا…..

الخطبة الثانية: الحمد لله…

أيها الأحبة، هذه السُّنة الربانية الثابتة (العاقبة للمتقين)، تأخُذنا إلى قوله تعالى: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَٰلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (١٠٣ يونس)، ﴿ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا﴾ (٧٢ مريم).. فسيندحر الظلمةُ والمجرمون.. ويخسأ القتلةُ والمعتدون، في كل زمان وفي كل مكان، ويبَقِى الإسلامُ شَامِخًا عزيزًا، واعلموا أنَّ الخيرَ بَاقٍ في هَذِه الأمةِ إلى قِيامِ السَّاعةِ، فأَبشِرُوا ولا تَيأَسُوا.

أَبشِروا ولا تَيأسُوا.. فالْمِحَنُ أمرٌ طَبيعِيٌّ، والابتلاءُ سُنَّةٌ كَونِيَّةٌ؛ لِيميزَ اللهُ الخبيثَ مِن الطَّيبِ، ولَكِنِ اليَأْسُ والخُنُوعُ والجَزَعُ والاسْتِسلامُ لَيسَ مِن أَخلاقِ المسلمينَ، ولا صفاتهم، ولا منهجهم.

أَبشِرُوا ولا تَيأَسُوا.. فمَهمَا فَعلَ الْفَجَرَةُ الظلمة قتلة الأطفال والنساء بالمسلمينَ في غزة، مهما سالت الدماء، ومهما قُتل من الأبرياء، ومهما دمروا من بيوت، وقصفوا من مساجد ومستشفيات ومدارس، فَإنهم لنْ يَنالُوا مِن دِينِهِمْ ولا مِن إِيمَانِهِمْ..

حتى وإن هدموا المآذن فوقنا … نحن المآذن فاسمعوا التهليلا

وصَدقَ اللهُ إذْ يَقولُ: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ (التوبة).

إذا اشتدّت رياحُ اليأس فينَا *** سَيعقبُ ضيقِ شدّتهَا الرخَاءُ

فَبَعد العتمَة الظَّلماء نورٌ *** وطَول الليلِ يعقُبهُ الضياءُ

اللهم أنت الحقّ،  ووعدك الحقّ، وقولك الحقّ، اللهم انجز ما وعدت ، فقد وعدتنا بنصر المؤمنين فقلت: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ). ووعدتنا بنجاة المؤمنين فقلت: ( فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ).. فإنك لا تخلف الميعاد..

اللهم يا لطيف يا عليم، يا صبور يا رحيم، يا جبار يا حكيم، يا ملك يا عظيم، لنا إخوة في كرب شديد، وبطش عتيد، وقد أسلموا أنفسهم إليك، ووجهوا وجوهم إليك، وفوضوا أمورهم إليك، وألجأوا ظهورهم إليك، رغبة ورهبة إليك، فلا ملجأ ولا منجا لهم إلا إليك، فاللهم أعنهم وانصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم احفظ أحياءهم، وارحم موتاهم، واشف مرضاهم، وعاف مبتلاهم، وانصر مجاهدَهُم، وفك أسيرهم، واخذل عدوهم، يا رب العالمين.

اللهم أحِقَّ الحق وأظهره.. وانصر أهله.. واعلِ رايته..

اللهم أبطل الباطل.. واهزم أهله.. وأذِل رايته..

اللهم قد كَبُر البلاء ، ولا مولى لنا سواك.. اللهم قد عَظُم الابتلاء، ولا ملجأ ولا منجى لنا إلاك، فأنت أعلم بأحوالنا، وبما في قلوبنا.

اللهم قد أخبرنا نبيُّنا أنه (من رضي فله الرضا)، يا رب إنهم رضوا فرضّهم، اللهم إنهم رضوا فارضَ عنهم.. فلا يوجد بعد رضاك شقاوة .. ولا مهانة.. ولا حزن.. ولا هوان..

اللهم أكرمهم ولا تهنهم.. وانصرهم ولا تنصر عليهم.. واكفهم شر الأشرار.. وكيد الفجار.. يا عزيز يا قهار..

اللهم اجعل المطر صيبا نافعا على أهل غزة.. اللهم صب عليهم الرحمات واللطف والستر صبا.. اللهم أجعله مطر غيث ونفع وتطهير وتثبيت.. ( وَيُنَزِّلُ عَلَيكُم مِّنَ السَّمَآءِ مَآء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِۦ وَيُذهِبَ عَنكُم رِجزَ الشَّيطَٰنِ وَلِيَربِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُم وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقدَامَ )

اللهم إنك قُلت وقولك الحق: (إن المجرمين في ضلال وسُعُر)، اللهم اجعل غاياتهم في ضلال، اللهم اجعل أهدافهم في ضلال، اللهم اجعل أفكارهم في ضلال، اللهم اجعل تفكيرهم في ضلال، اللهم اجعل نيرانهم في ضلال، اللهم اجعل صواريخهم في ضلال، اللهم اجعل قادتهم في ضلال، اللهم اجعل جنودهم في ضلال، اللهم اجعلهم كلهم في ضلال، يا رب العالمين..

اللهم فرج عن أسرانا.. وتقبل شهداءنا.. واشف وعاف وشاف جرحانا.. واجبر من ابتُلي منا يا كريم..

وأنت يا مقيم الصلاة أقم الصلاة….

خطبة نصرة الحق

خطبة نصرة الحق 22/12/2023

الحمد لله الذي لا يُحب المعتدين، وجعل من والاهم وأيدهم مثلهم في الإثم والعقوبة فقال: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾.. أشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدًا نبيُّه وعبدُه، يروى أنه قال: (إذا رأَيْتُ أُمَّتي تَهابُ الظَّالمَ أنْ تقولَ له: أنتَ ظالمٌ؛ فقد تُوُدِّعَ منهم) (المسند)، وقال: (إنَّ النَّاسَ إذا رأوا الظَّالمَ فلم يأخذوا علَى يدَيهِ أوشَكَ أن يعمَّهمُ اللهُ بعقابٍ منُه) (صحيح سنن الترمذي).

أَمَّا بَعدُ، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ (البقرة: 21).


أيها الأحبة الكرام، من المعروف لدى الجميع أنه بعد صلح الحديبية دخلت خزاعة في حلف الرسول ﷺ‎ ، ودخلت بنو بكر في حلف قريش. وبعد فترة من توقيع اتفاقية السلام في الحديبية نقضت بنو بكر الاتفاق والعهد والميثاق وأغارت ليلا على خزاعة وقتلت منهم أشخاصًا.. وأصابوا منهم ما أصابوا ، ونقضوا ما كان بينهم وبين المسلمين.

فجاء رجل اسمه عمرو بن سالم من قبيلة خزاعة ومعه اشخاص يستنصرون رسول اللهﷺ‎ ويخبرونه بالذي حصل، حيث ساعدت قريشُ وعاونت بني بكر بالرجال والسلاح، وقال شعرا:

يا رب إني ناشد محمدا … حلف أبينا وأبيه الأتلدا

إن قريشا أخلفوك الموعدا … ونقضوا ميثاقك المؤكدا

هم بيَّتونا بالوتير هجدا … وقتلونا ركعا وسجدا

فانصر رسول الله نصرا أيدا … وادع عباد الله يأتوا مددا

فلما سمع رسول اللهﷺ‎ أن بعض المسلمين قتلوا غدرا وخيانة وظلما واعتداء.. . قال كلمة فيها درس لكل محب للحق والعدل، لكل من في قلبه ذرة إيمان، لم يتردد ثانية واحدة وهو يرى الظلم والاعتداء على المسلمين، فقال: (نصرت يا عمرو بن سالم).. وفي تلك اللحظة مرت سحابة في السماء فرعدت، فقال ﷺ‎ مستبشرا ومتفائلاً بالسحابة التي فيها الخير وبصوت الرعد الذي فيه الرعب للظلمة : (إن هذه السحابة لَتَسْتَهِلُّ بنصر بني كعب).

وفي رواية عن عائشة رضي الله عنها قالت: لقد رأيت رسول الله ﷺ غضب مما كان من شأن بني كعب غضبًا لم أره غضبه منذ زمان، وقال: (لا نصرني الله إن لم أنصر بني كعب)

أيها الكرام، أين من يستنون بهذه السُّنة، بل أين من يُطبقون هذا الواجب الديني والأخلاقي والإنساني؟ وأعجب من أمر المسلمين الذين نسوا أو تناسوا أن المسلم أخو المسلم، يجب عليه أن ينصره في الوقت الذي يحتاج فيه إلى مناصرته، لهذا جاء الترغيب النبوي: (وَاللهُ في عَونِ العَبدِ مَا كَانَ العَبدُ في عَونِ أَخِيهِ) (أَخرَجَهُ مُسلِمٌ). وفي الحديث أيضًا: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسْلمه) (رَوَاهُ مُسلِمٌ)، ومعنى (لا يُسلمه) لا يُسلمه للأعداء، ولا يسمح لهم بإيذائه، ولا يقبل ولا يرضى أن يُهان أو يؤذى أخاه المسلم في نفسه أو عرضه أو ماله، فضلاً عن قتله وتشريده وتدمير البيوت على رؤوس الآمنين..

وهذا معيار من معايير الأخوّة في الإسلام كما يقول أول الحديث: (المسلم أخو المسلم)، فإذا ظلَمَ أخاه، فإن أُخوَّتَه ناقصة، وإذا أسْلَمَه إلى من يَظلِمه، فإن أُخوَّتَه ناقصة.. وأذا ساند الظالمين المعتدين المجرمين على أخيه فإن أخوته ناقصة، بل لا أخوَّةَ له..

وفي رواية للحديث: (لا يَظْلِمُهُ، ولا يَخْذُلُهُ) يعني لا ينبغي أن تترك أخاك تنهشه الكلاب وتخونَهُ وتسمح للمجرمين بإيذائه، وهذا واجبٌ وليس مِنَّةً.. واجبٌ وليس تَفَضُّلاً.. لهذا جاء التهديد النبوي: (مَا مِن امرِئٍ يَخذُلُ مُسلِمًا في مَوطِنٍ يُنتَقَصُ فِيهِ مِن عِرضِهُ وَيُنتَهَكُ فِيهِ مِن حُرمَتِهِ إِلاَّ خَذَلَهُ اللهُ في مَوطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصرَتَهُ، وَمَا مِن امرِئٍ يَنصُرُ مُسلِمًا في مَوِطٍن يُنتَقَصُ فِيهِ مِن عِرضِهِ وَيُنتَهَكُ فِيهِ مِن حُرمَتِهِ إِلاَّ نَصَرَهُ اللهُ في مَوطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصرَتَهُ) (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ). فليس أحدٌ يترُكُ نُصرة مسلم مع وجود القدرة عليه بالقول أو الفعل عند حضور غيبته أو إهانته أو ضربه أو قتله إلا خذله الله تعالى.

فإذا كان النبي ﷺ يقول: (مَن رَدَّ عَن عِرضِ أَخِيهِ رَدَّ اللهُ عَن وَجهِهِ النَّارَ يَومَ القِيَامَةِ) (رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ)، فما بالكم بمن يتقاعس عن مساعدة ومؤازرة أهل الإيمان والتوحيد والملة الذي يُقَتَّلُون ويُقصَفُون وتُدمر بيوتهم وتُقتل أطفالُهم ونساؤهم في كل حين، بل ويُسخِّر لذلك أمواله وإعلامه وجيوشه؟ فهؤلاء أناسٌ يأبى الله إلا أن يحرمهم هذا الفضل، وهذا الخير.. وهذا الأجر، لأنهم يتحججون بحجج واهية.. لعدم نُصرة أهل غزة، والحقيقة أن الله حرمهم من هذه النعمة وهذا الفضل وهذا الشرف، (ولو علم الله فيهم خيرًا لأسمعهم).. ولا يهم إن كانوا أصحاب تيجان أو أصحاب عمامات أو ذوي نياشين..

هذا إذا تقاعسوا عن نُصرة المسلمين، فما بالكم لو ساعدوا أهل الظلم والإجرام في قتل المسلمين وتدمير ديارهم؟ ما بالكم بمن يُناصر الظالمين على من يقول حسبي الله ونعم الوكيل؟ تلك الكلمة التي قالها إبراهيم ﷺ وهو في النار فأنجاه ربُّه.. وقالها محمد ﷺ يوم قَالُوا: ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ فأنجاه ربُّه، ويقولها أهل غزة، ولا شك أن الله سيُنجيهم بها، وسينقلوبوا بنعمة من الله وفضل ونصر وعِزة وظفر.. فإن ﴿مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ (الطلاق: 3).

اسمعوا إلى حبيبنا ﷺ وهو يقول: (منْ أعانَ ظالمًا ليدحضَ بباطلهِ حقًّا، فقدْ برئتْ منهُ ذمةُ اللهِ ورسولِهِ) (صحيح الجامع).. أتُريدون أكثر من هذه عُقوبة لهؤلاء المتقاعسين المتخاذلين؟

فصمتكم مبضَعٌ ماضٍ يُقَطّعنا *** يُقَرِّضُ اللحمَ مِنَّا والشَّرايينا

وزاد لوعتَنا زَيفٌ يُصوِّرُهُ *** أبو رغال، وإعلامٌ يُعادينا

تُحَرِّف القول زورًا عن مواضعهِ *** وتقلب الحقَّ أشمالاً ميامينا

يا أمة الحقِّ إن الحق يمقتكم *** إن لم تسيروا على درب النبيينا

لن يُعجِزَ العبدُ دعواتٍ يُرددها*فهل مددتم أكف الصدقِ دعينا

يا رب هيء لنا من أمرنا رشدًا*واسكب على أهلنا صبرًا وتمكينا

يقول يحيى بن معاذ رحمه الله: “ليكُن حظ أخيك المؤمن منكَ ثلاثًا: إنْ لم تنفعه فلا تضرّه، وإن لم تُفرحهُ فلا تُغِمّه، وإنْ لم تمدحه فلا تذمّه”.

أقول قولي هذا…..

الخطبة الثانية… الحمد لله….

في مثل هذه الأوقات العصيبة، تتجلى صفة اليقين على الله تعالى، اليقين على كلامه، والتصديق بحكمته البالغة، وقد طبَّق النبي ﷺ -وهو قدوتنا- ذلك عمليًا في مواقف كثيرة، ليرفع معنويات المسلمين والمجاهدين، ففي بدر مثلاً عندما وقف ثلاثمائة مسلم مقابل ألف كافر، أواد أن يُبشرهم وينزع من قلوبهم الخوف، فصاح بهم: (والله إني لأرى مصارع القوم).. فأيقن المسلمون أن النصر حليفهم ولا بُد؛ لقول النبي ﷺ.

وفي غزوة الخندق حيث بلغت القلوب الحناجر من الخوف والشِّدة، أراد أن يرفع معنويات المسلمين ويُذهِب عنهم الخوف والحزن، فصاح بهم: (اللهُ أكبرُ أُعْطِيتُ مَفاتيحَ الشامِ، واللهِ إني لَأُبْصِرُ قصورَها الحُمْرَ الساعةَ… اللهُ أكبرُ، أُعْطِيتُ مفاتيحَ فارسٍ، واللهِ إني لَأُبْصِرُ قصرَ المدائنِ أبيضَ… اللهُ أكبرُ أُعْطِيتُ مَفاتيحَ اليَمَنِ، واللهِ إني لَأُبْصِرُ أبوابَ صنعاءَ من مكاني هذا الساعةَ)..

 لاحظوا -أيها الكرام- اليقين التام على كلام الله تعالى، فالله قال وقوله حق: ﴿فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ﴾.. ونحن نوقن أيضًا على كل قول قاله الله تعالى، فنوقن أن النصر لأهل الإسلام وأهل الحق لأنه يقول وقوله الحق: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ﴾.. ويقول: ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ﴾.. ونوقن أن الله سيُنجيهم لا محالة؛ لأن الله يقول وقوله الحق: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾.. ونوقن حق اليقين أن الله سيُدافع عنهم لا محالة، فهو الذي يقول وقوله الحق: ﴿إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ﴾.

ونوقن أن الله سيُمَكِّن لهذه الأمة، ولو كره الكافرون، ولو كره المنافقون، ولو كره المثبطون، ولو كره الإعلام الأصفر الجائر..

ونوقن حق اليقين أن الظلم أيامه معدودة، وإن طال ظلمُه وعدوانُه وجُرمُه، لأن الله يقول وقوله الحق: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾.. ولأنه يقول وقوله الحق: ﴿فَأَوحَى إلَـيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِـمِينَ﴾.. وسيكون هذا في الدنيا قبل الآخرة، لأن الله يقول وقوله الحق: ﴿قالَ أَمّا مَن ظَلَمَ فَسَوفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذابًا نُكرًا﴾ (الكهف:87).

ونوقن أشد اليقين أن الله سينصرنا عليهم مهما طال الأمد، ومهما استطال الظلم والقتل والتشريد والتجويع، لأن الله يقول وقوله الحق: ﴿وَتِلْكَ ٱلْقُرَىٰ أَهْلَكْنَٰهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا﴾ (الكهف:59)، ويقول النبي ﷺ وقوله حق: (إن الله ليملي للظالم، فإذا أخذه لم يفلته) ثم قرأ: ﴿وكذلك أخذُ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد﴾.. ويقول جل وعلا: ﴿وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ﴾ (القصص:39-40).

اللهم أنت الحقّ،  ووعدك الحقّ، وقولك الحقّ، اللهم انجز ما وعدت ، فقد وعدتنا بنصر المؤمنين فقلت: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾.. ووعدتنا بنجاة المؤمنين فقلت: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ فإنك لا تخلف الميعاد

اللهم يا لطيف يا عليم، يا صبور يا رحيم، يا جبار يا حكيم، يا ملك يا عظيم، لنا إخوة في غزة في كرب شديد، وبطش عتيد، وقد أسلموا أنفسهم إليك، ووجهوا وجوهم إليك، وفوضوا أمورهم إليك، وألجأوا ظهورهم إليك، رغبة ورهبة إليك، فلا ملجأ ولا منجا لهم إلا إليك، فاللهم أعنهم وانصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم احفظ أحياءهم، وارحم موتاهم، واشف مرضاهم، وعاف مبتلاهم، وانصر مجاهدَهُم، وفك أسيرهم، واخذل عدوهم، يا رب العالمين.

اللهم إنك قُلت وقولك الحق: (إن المجرمين في ضلال وسُعُر)، اللهم اجعل غاياتهم في ضلال، اللهم اجعل أهدافهم في ضلال، اللهم اجعل أفكارهم في ضلال، اللهم اجعل تفكيرهم في ضلال، اللهم اجعل نيرانهم في ضلال، اللهم اجعل صواريخهم في ضلال، اللهم اجعل قادتهم في ضلال، اللهم اجعل جنودهم في ضلال، اللهم اجعلهم كلهم في ضلال، يا رب العالمين……

اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين…..

خطبة (والعاقبة للمتقين) 24/11/2023

خطبة (والعاقبة للمتقين)

إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، القائل: ﴿إِنَّهُم يَكِيدُونَ كَيدًا (15) وَأَكِيدُ كَيدًا (16) فَمَهِّلِ ٱلكَٰفِرِينَ أَمهِلهُم رُو    َيدًا (17) ﴾.

وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، القائل: «ما من امرئ يخذل امرأ مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه، إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئ ينصر مسلما في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته، إلا نصره الله في موطن يحب نصرته».. صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين… أمّا بعد:

فاتّقوا الله -عباد الله- فإنها السبيل إلى معية الله، قال تعالى: ﴿ وَاعلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ ﴾.

أيها الكرام، إن الله تبارك وتعالى يأمُرنا ويقول: ﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)﴾ (آل عمران)..

﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾ سُنن يعني ثوابت راسخة، وقواعد ربانية لا تتبدل ولا تتحول، ﴿فَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)﴾ انظروا وتفكروا وتدبروا في أحوال الأمم السابقة، لتجدوا قواعد وسُنن ربانية ثابتة تنطبق على كل زمان ومكان.

ومن هذه السنن والقواعد الربانية التي ذُكرت في القرآن أربع مرات هي قوله تعالى: ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ فالنهاية في كل أمر لأهل التقوى، لابُد أن يكون النصر في النهاية لأهل التقوى، لابُد أن تكون النجاة في النهاية لأهل التقوى، لا بُد أن تكون الخيرية في النهاية لأهل الإيمان.. وفي آية أخرى: ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْتَّقْوَى﴾ يعني لفكرة التقوى والعدل والحرية والخير والصلاح.

ولو تتبعنا أيها الكرام أحوال الأمم السابقة لوجدنا هذه السنة الثابتة تتكرر، فأنبياء الله تعالى كلهم تعرضوا للاضطهاد والاعتداء والإيذاء من أقوامهم، حتى قَتل بنو إسرائيل الأنبياء، وطاردوا عيسى وحاولوا قتله، وقتلوا زكريا، واتهموا سُليمان عليهم الصلاة والسلام أجمعين، لكن في النهاية كانت العاقبة للمتقين: ﴿وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ (٥٨ هود)، ﴿فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ﴾ (٦٦ هود).. ﴿وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾ (٩٤ هود).. ﴿وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ…﴾ (٧٤ الأنبياء)..

أما محمد صلى الله عليه وسلم ومن معه، فكم أوذوا؟! وكم اضطُهِدوا؟! وكم ضُربوا وهُجِّروا من ديارهم ولجئوا إلى بلاد الغُربة، لكن في النهاية كانت العاقبة للتقوى..

وفي اتفاقية صُلح الحديبية التي كان فيها شروطًا ليست في صالح المسلمين ظاهريًا، لكن الله تعالى جعلها مفتاح للنصر والعزة، فأتبعها بفتح مكة، وكانت العاقبة للمتقين.

ولو نظرنا إلى التاريخ، لوجدنا أن الصليبيين فعلوا بالمسلمين الأفاعيل، حيث قتلوهم ودمروا بلادهم وعاثوا فسادًا على طول الطريق من روما إلى القدس، ففي معرة النعمان مثلاً؛  قتلوا جميع من كان فيها من المسلمين واللاجئين من المملك المجاورة الذين اختبئوا في الجوامع والسراديب ، فزادوا على ثمانين ألفًا.

وفي القدس مذبحة استمرت عشرة أيام يرجح المؤرخون أنها أودت بحياة نحو مئة ألف مقدسي، وأحرقت الجثث وقُطِّعَت الأيدي والأرجل والأصابع وشقت البطون، وحَولوا الأقصى إلى اصطبل للخيول.

اقرءوا ما كتبه ” غوستاف لوبون ” في كتابه ” الحضارة العربية ” – نقلاً عن روايات رهبان ومؤرخين رافقوا الحملة الصليبية الحاقدة على القدس حيث يقول الكاهن (ريموند داجميل ) وهو شاهد عيان: “في مسجد عمر أفرط قومنا في سفك الدماء، وكانت جثث القتلى تعوم في الساحة هنا وهناك، وكانت الأيدي المبتورة تسبح كأنها تريد أن تتصل بجثث غريبة عنها، فأفنوهم عن بكرة أبيهم في ثمانية أيام، و لم يستبقـوا منهم امرأة و لا ولدا و لا شيخا”..

لكن؛ وبعد 99 سنة، في النهاية كانت السُّنة الربانية العظيمة، حيث سخر رب العالمين رجالاً كصلاح الدين رحمه الله تعالى، حيث نصرهم الله تعالى، ومرَّغوا أنوف الصليبيين في التراب، وأعزَّ الله الإسلام والمسلمين، وكانت العاقبة للمتقين.

أما التتار والمغول، فحدث عنهم ولا حرج، فإنه لا يخفى عليكم أمرهم، وما قتلوا ودمروا وحيث أحرقوا الأخضر واليابس، من أفغانستان وحتى وصلوا فلسطين، فعلى سبيل المثال لا الحصر قتلوا في خوارزم وحدها أكثر من مليون ومائتي ألف إنسان.. وفي بغداد قتلوا نحو مليون مسلم كما يقول أهل التاريخ..

لكن في النهاية كانت السُّنة الربانية العظيمة، حيث سخَّر الله تعالى رجالاً أمثال قُطز والظاهر بيبرس وغيرهم، ممن أذلوا التتار ومرغوا أنوفهم في الأرض، وكانت العاقبة للمتقين، أهل الصلاح وأهل الخير.. فرَجعوا بالخَيبةِ والخُسرانِ وانقطعَ ذِكرُهُم إلا بالشَّرِّ، وتلكَ ديارُهُم يَلُوحُ فيها صَوتُ الأذَانَ كلَّ يومٍ خَمسَ مَرَّاتٍ، تِلكَ دِيَارُهُمْ شَاهِدَةٌ على أنَّ اللهَ نَاصِرٌ دِينَهُ.. وناصر أهلَ دينِه.

﴿الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ سُنةٌ قائمةٌ ثابتةٌ على مُستوى الأمة.. وعلى مستوى الدول والجماعات، حتى الأفراد.. فالإمام أحمد رحمه الله -على سبيل المثال لا الحصر- عُذب وأوذي وسُجن، وفي النهاية كانت ﴿الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾.. وعبد الله بن حذافة السهمي أوذي هو ومن معه من الأسرى وعُذِّبوا وابتُلوا بشتى أنواع الابتلاءات حتى كان يُلقى إخوانُهُم أمامهم في الزيت المغلي حتى تطيش عظامهم، لكنهم صبروا وثبتوا وكانت وفي النهاية ﴿الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ فأُطلِقَ الأسرى كُلُّهم، وقبَّل أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه رأسه..

ففي بدر كانت ﴿الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾.. وفي الأحزاب وخيبر وبني قريظة.. كانت ﴿الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾.. وفي فتح مكة كانت ﴿الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾.. وفي القادسية والمدائن كانت ﴿الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾.. وفي معركة المنصورة كانت ﴿الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾.. وفي معركة ملاذكرد كانت ﴿الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾.. لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين.. قال تعالى: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (49:هود).. أقول قولي هذا…..

الخطبة الثانية: الحمد لله…

أيها الأحبة، هذه السُّنة الربانية الثابتة (العاقبة للمتقين)، تأخُذنا إلى قوله تعالى: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَٰلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (١٠٣ يونس)، ﴿ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا﴾ (٧٢ مريم).. فسيندحر الظلمةُ والمجرمون.. ويخسأ القتلةُ والمعتدون، في كل زمان وفي كل مكان، ويبَقِى الإسلامُ شَامِخًا عزيزًا، واعلموا أنَّ الخيرَ بَاقٍ في هَذِه الأمةِ إلى قِيامِ السَّاعةِ، فأَبشِرُوا ولا تَيأَسُوا.

أَبشِروا ولا تَيأسُوا.. فالْمِحَنُ أمرٌ طَبيعِيٌّ، والابتلاءُ سُنَّةٌ كَونِيَّةٌ؛ لِيميزَ اللهُ الخبيثَ مِن الطَّيبِ، ولَكِنِ اليَأْسُ والخُنُوعُ والجَزَعُ والاسْتِسلامُ لَيسَ مِن أَخلاقِ المسلمينَ، ولا صفاتهم، ولا منهجهم.

أَبشِرُوا ولا تَيأَسُوا.. فمَهمَا فَعلَ الْفَجَرَةُ الظلمة قتلة الأطفال والنساء بالمسلمينَ في غزة، مهما سالت الدماء، ومهما قُتل من الأبرياء، ومهما دمروا من بيوت، وقصفوا من مساجد ومستشفيات ومدارس، فَإنهم لنْ يَنالُوا مِن دِينِهِمْ ولا مِن إِيمَانِهِمْ..

حتى وإن هدموا المآذن فوقنا … نحن المآذن فاسمعوا التهليلا

وصَدقَ اللهُ إذْ يَقولُ: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ (التوبة).

إذا اشتدّت رياحُ اليأس فينَا *** سَيعقبُ ضيقِ شدّتهَا الرخَاءُ

فَبَعد العتمَة الظَّلماء نورٌ *** وطَول الليلِ يعقُبهُ الضياءُ

اللهم أنت الحقّ،  ووعدك الحقّ، وقولك الحقّ، اللهم انجز ما وعدت ، فقد وعدتنا بنصر المؤمنين فقلت: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ). ووعدتنا بنجاة المؤمنين فقلت: ( فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ).. فإنك لا تخلف الميعاد..

اللهم يا لطيف يا عليم، يا صبور يا رحيم، يا جبار يا حكيم، يا ملك يا عظيم، لنا إخوة في كرب شديد، وبطش عتيد، وقد أسلموا أنفسهم إليك، ووجهوا وجوهم إليك، وفوضوا أمورهم إليك، وألجأوا ظهورهم إليك، رغبة ورهبة إليك، فلا ملجأ ولا منجا لهم إلا إليك، فاللهم أعنهم وانصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم احفظ أحياءهم، وارحم موتاهم، واشف مرضاهم، وعاف مبتلاهم، وانصر مجاهدَهُم، وفك أسيرهم، واخذل عدوهم، يا رب العالمين.

اللهم أحِقَّ الحق وأظهره.. وانصر أهله.. واعلِ رايته..

اللهم أبطل الباطل.. واهزم أهله.. وأذِل رايته..

اللهم قد كَبُر البلاء ، ولا مولى لنا سواك.. اللهم قد عَظُم الابتلاء، ولا ملجأ ولا منجى لنا إلاك، فأنت أعلم بأحوالنا، وبما في قلوبنا.

اللهم قد أخبرنا نبيُّنا أنه (من رضي فله الرضا)، يا رب إنهم رضوا فرضّهم، اللهم إنهم رضوا فارضَ عنهم.. فلا يوجد بعد رضاك شقاوة .. ولا مهانة.. ولا حزن.. ولا هوان..

اللهم أكرمهم ولا تهنهم.. وانصرهم ولا تنصر عليهم.. واكفهم شر الأشرار.. وكيد الفجار.. يا عزيز يا قهار..

اللهم اجعل المطر صيبا نافعا على أهل غزة.. اللهم صب عليهم الرحمات واللطف والستر صبا.. اللهم أجعله مطر غيث ونفع وتطهير وتثبيت.. ( وَيُنَزِّلُ عَلَيكُم مِّنَ السَّمَآءِ مَآء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِۦ وَيُذهِبَ عَنكُم رِجزَ الشَّيطَٰنِ وَلِيَربِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُم وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقدَامَ )

اللهم إنك قُلت وقولك الحق: (إن المجرمين في ضلال وسُعُر)، اللهم اجعل غاياتهم في ضلال، اللهم اجعل أهدافهم في ضلال، اللهم اجعل أفكارهم في ضلال، اللهم اجعل تفكيرهم في ضلال، اللهم اجعل نيرانهم في ضلال، اللهم اجعل صواريخهم في ضلال، اللهم اجعل قادتهم في ضلال، اللهم اجعل جنودهم في ضلال، اللهم اجعلهم كلهم في ضلال، يا رب العالمين..

اللهم فرج عن أسرانا.. وتقبل شهداءنا.. واشف وعاف وشاف جرحانا.. واجبر من ابتُلي منا يا كريم..

وأنت يا مقيم الصلاة أقم الصلاة….