المساجد.. صانعة الرجال 6/1/2012
الحمد لله الذي رضي من عبادهِ بالقليلِ من العمل، وتجاوزَ عن الكثير من الزلل، أفاضَ عليهم النعمة، وكَتَبَ لهم على نفسه الرحمة، فكتبَ على باب الجنة: إن رحمتي سَبَقَت غَضَبي..
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له…
لَقَد مَددتُ يدي بالذُّلّ مُفتقراً *** إليكَ يا خيرَ من مُدّت إليهِ يدُ
فلا تَرُدَّنّـها يـا رَبّ خائبةً *** فَبَحرُ جودِكَ يروي كُلّ من يِرِدُ
وأشهدُ أن محمد ﷺ عبده ورسولُهُ، كان يقول: (ثلاثةٌ في ضمان الله عز وجل، رَجُلٌ خَرَجَ إلى مسجد من مساجد الله عز وجل، وَرَجُلٌ خَرَجَ غازياً في سبيل الله، وَرَجُلٌ خَرَجَ حاجاً)([1]).
أما بعد أيها الناس: لماذا هذه الهجمة الشرسة على المساجد؟؟ اقتحاماتٌ ومنعٌ وتدنيسٌ وانتهاك لحُرماتِها واعتداء من اليهود عليها..
أيها الناس: كما تعلمون فإن أول عملٍ عمله رسول الله ﷺ بعد هجرته هو بناء المسجد، وذلك لتظهر فيه شعائر الإسلام التي طالما حوربت ومُنِعَت، قال تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى﴾. بناهُ لِتُقام فيه الصلوات التي تربط العبد بِرَبّه، فَتُنَقّي القلب من أدرانِ وأدناس الحياة الدنيا..
أيها الأحبة: عندما بنى رسول الله ﷺ المسجد حَفَرَ له أساساً ارتفاعه ثلاثة أذرع، لكن هذا الأساس حَفَرَ في قلوب أعداء الدين خندقاً كما بين السماء والأرض.
بُني المسجد من طين، لكنه جعل الإيمان في قلوب من تَرَبّوا فيه كأمثال الجبال الرواسي..
رُفِعَت جُدران المسجد بما لا يزيد عن قامة الرَّجُل إلا قليلاً، لكن هذا المسجد رَفَعَ هِمَّة من تَرَبّوا فيه إلى السماء..
أُغلِقَت الشُّقوق في سقف المسجد بجريد النخل، لكن هذا المسجد أَغلَقَ كُلَّ الشقوق بين المسلمين فأصبحوا كَرَجُلٍ واحدٍ إن اشتكى من عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.. لا ظُلم ولا حسد ولا بغضاء.. لماذا؟ لأنهم كانوا من رُوّادِه ومن عُمّاره.
أيها الأحبة في الله: سَنَطوفُ وإياكم مع المساجد في ثلاث آياتٍ من كتاب الله المُعَظّم.
الآية الأولى: هي قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا﴾ نعم، المساجد لله.. لكن قائلاً قد يقول: أليس الأرضُ كُلّها لله؟ بلى.. لكن الله تعالى خَصّ المساجد بِنِسبَتِها إليه جَلَّ في عُلاه لِعِظَمِ شَرَفِها، ولِعُلُوّ مكانتها وقَدرها.. كيف لا وهي أحَبُّ بقاع الأرض إلى الله([2]).. يُذكَرُ فيها اسمه كثيراً.. ويُسَبَّح ويُعَظّم جل جلاله فيها بالغُدُوّ والآصال..
فَلِعِظَمِ قَدْرِها جعل الله تعالى منعَ عِمارتَها من أعظم الذنوب وأشَدّها عذاباً، قال جَلَّ وعلا: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ لماذا هذا العذاب؟ لأنها لله..
المساجد، من بنى منها واحداً لله، ولو بِحجمِ حُفرةٍ حَفَرَها طائر، بنى الله له بيتاً في الجنة، لماذا؟ لأنها لله..
المساجد، من ذَهَبَ إِليها بُكرةً وَعَشِيّةً كافأهُ الله جلّ وعلا بضِيافةٍ كُلما غَدا أو راح، لأنها لله..
المساجد، تُضاعف فيها الأجور إلى سبعٍ وعشرين درجة، من جاءها كانت كل خُطوة له بحسنة وتَحُطّ عنه سيئة وترفعهُ درجة، لماذا؟ لأنها لله.
المساجد، مُنِعَ فيها البيع والشراء وتجارَةُ الدنيا، بل وَجَبَ أن نقولَ لمن
فَعَلَ ذلكَ: لا أربحَ الله تجارتك([3]).. لأنها لله..
المساجد، أمَرَ الله تعالى بالتوجّه إليها للصلاة، بل لم يُرَخّص للضرير الذي لم يجد سائقاً يسوقُهُ بتركها، بل أعظَم من هذا، فالحبيب ﷺ يقول: (لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلا فيصلي بالناس ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأُحَرّق عليهم بيوتَهم بالنار)([4]).. لماذا؟ لأنها لله..
فما هُو حالُنا مع بُيوت الله؟؟ أَلَم تسمعوا بكاء المآذن بكرةً وعشيّة؟ نعم.. تبكي المآذن وتَئِنّ المحاريب والمساجد، بل وتبكي السماوات والأرض إذا غاب عنها الصالحون والصالحات.. تبكي إذا فقدت صلاة المصلين وخُشوع الخاشعين.. تبكي لفقدها عُمّارَها.. فمن يمسحُ دموعها.. ومن يرفعُ حُزنها؟؟
فما هُو حالُنا مع بُيوت الله؟؟ كُلّ مِنّا يُجيب نَفسَهُ بِنَفسه، وليتذكّر قبل الإجابة أنها لله..
أيها الناس: أما الآية الثانية، فهي قولُه جَلَّ وعلا: ﴿لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ
أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾.
ارجعوا أيها الأحبة مرّةً أُخرى إلى الآية، ولاحظوا كلمة (فيه رجال)، فَعُمّار المساجد هُم الرجال الحقيقيون.. مُفَسّر القرآن يَتَخَرّجُ من المسجد، والمُحَدّث يَتَخَرّجُ من المسجد، والفقيه يَتَخَرّجُ من المسجد، والخطيب يبدأ من المسجد، والمجاهد يَتَرَعرعُ وينشأ في المسجد، والحاكم بِشَرع الله جُذورُهُ مغروسةٌ بالمسجد، والآمر بالمعروفِ والناهي عن المنكر أصلُهُ وَمَرَدُّه إلى المسجد، فَمِنْهُ تَخَرّج قادة الدنيا وصُنّاعُ الحضارة.. وبسَبَبِه أصبَحَ رُعاة الغنم سادةً للأُمم..
ونعودُ إلى الآية مَرَّة أُخرى أيها الأحبة، لنُلاحظ قوله تعالى: ﴿فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا﴾، أي أنّ من صفات هؤلاء الرجال أنّهُم يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا، وكلمة (يَتَطَهَّرُوا) مُبهمة، لتدُلّ على الشمولية، يعني يَتَطَهّروا في أجسامهم، يَتَطَهّروا في قُلوبِهِم فلا ظُلمَ ولا غِشّ ولا غِلّ، يَتَطَهّروا في جوارِحِهم فلا ضَربَ ولا شَتمَ ولا نميمة.. يَتَطَهّروا في بُيوتِهم ومع أهليهم، يَتَطَهّروا في أخلاقهم وأخلاقِ أولادهم وبناتهم.. يَتَطَهّروا في حياتهم حتى يكونوا أطهاراً عند موتِهم، وأطهاراً عند لقاء رَبِّهَم..
فهنيئاً لِمَن دَخَلَ قَبرَهُ وهو مُتَطَهّر.. وهنيئاً لمن وَقَفَ أمامَ رَبَّهُ وَهُوَ مُتَطَهّر.. أتدرون لماذا؟ لأنّ الله يُحِبُّ المُتَطَهِّرين.. فالله تعالى يُحِبَّكَ إذا كُنتَ من المتطهّرين الذين يعمُرون مساجدَ الله.. فهل من مُدّكر؟
أقول قولي هذا…….
الخطبة الثانية: الحمد لله
أيها الأحبة في الله، والآية الثالثة التي سَنَقِف معها في هذه الخطبة هي قوله جل وعلا: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ﴾.
تَفَكَّروا -أيها الأحبة- في قوله تعالى (أَذِنَ الله أن تُرفَع).. فلا يوجد مخلوق على وجه الأرض، في الشرق أو في الغرب.. في الشمال أو الجنوب.. في السماوات أو في الأرض يُمكِن أن يوقفَ عُلُوَّها أو ارتفاعها، لأن الله هو الذي أَذِن أن تُرفَع..
وبهذا فلا اليهود ولا غير اليهود يُمكن أن يوقف الأذان في المساجد، مهما حاوَلوا.. لأَنّ اللهَ هو الذي أَذِنَ أن تُرَفَعَ..
وسَيَخسأُ ويَصغُرُ ويَذِلّ كُلّ كلّ من يقف في وجهِ بناءِ المساجدِ أو المآذنِ أو عمارتِها.. ما دام أن اللهَ هو الذي أَذِنَ أن تُرَفَعَ..
سَتَعِمُّ المساجد كُل العالم، وستملأُ بُيوت الله أرضَ اللهِ بلا شَكّ.. ما دام أن اللهَ هو الذي أَذِنَ أن تُرَفَعَ.. ولكنكم تستعجلون..
لكن السؤال أيها الأحبة: لماذا تُرفع؟ تُرفعُ ليُذكَرَ فيها اسمه جل وعلا، فلا يُعَظّم فيها سِواه.. فلا إله إلا الله.. لا إله إلا الله..
هذه البيوت التي يُسبّح له فيها بالغُدُوّ والآصال رجال.. رجالٌ تَرَبّوا في المساجد.. رجالٌ حَرِصوا على هذه المساجد وحَرَسوها.. رِجالٌ وقفوا في وجه كل من يُحارب المساجد ويمنع أن يُذكَرَ فيها اسمه الله يسعى في خرابها.. رجالٌ حَبّبوا الناس في المساجد.. رجالٌ أَخَذوا بأيدي العصاة إلى المساجد.. إذا دَخَلوها خَشَعَت قُلوبُهم.. وغُضّت أبصارُهم.. وانهمرت مَدامِعُهُم.. لأنهم في بيتِ رَبّهم..
رجالٌ أحَبّوا المساجد فَعَمَروها.. وداوموا على الصلاة فيها.. رجالٌ لا تُلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ ولا حتى كُلّ الدنيا عن ذكر اللهِ في المساجد.. لماذا؟ لأنهم يخافونَ يوماً تتقَلَّبُ فيه القُلوبُ والأبصار.. فهؤلاء ﴿لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾..
فلابد أيها الأحبة من إحياء حُبّ المساجد في قُلوبِنا وقُلوبِ إبنائنا وإخواننا.. فالبيوت التي انطلقت منها الرسالات، والتي تُكسبُ فيها الرحمات، يجب أن تُوَقّر وتُصان فلا تُهان.. وتُطَهّر فلا تُنَجّس.. وتُعَمّر فلا تُهدم.. فإنّ توقيرها من توقير الله الكبير.. والمحافظة على طهارتها من تعظيم الله العظيم..
﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾.
اللهم اجعلنا ممن تعلقت قُلوبُهم بالمساجد، لنكون في ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظِلُّكَ…
(1) حديث رقم: 3051 في صحيح الجامع، والسلسلة الصحيحة 598.
(2) حديث رقم: 167 في صحيح الجامع.